الناظرُ إلى أحوالنا العربية عموماً، والخليجية خصوصاً، والكويت تحديداً، يُصاب بالإحباط من الصورة السوداوية التي تُطالعه يومياً، أكان في ما يتعلق بالانحراف الديمقراطي عن الوجهة الصحيحة، أو الانحدار الاقتصادي الآخذ بالتقهقر إلى حدِّ الأزمة الخانقة.
ويبدو أنَّ العرب لا يتعلمون من الغير، ولا من تجاربهم أيضاً؛ لذلك يخرجون من أزمة ليدخلوا أخرى أكثر تعقيداً، ففي الوقت الذي تتراجع فيه الحركة الديمقراطية بالكويت، وتزداد نسبة الفساد والخروج على القانون، نرى دولة أصغر منها بكثير، لا تمتلك أي ثروات طبيعية، ونالت استقلالها عن بريطانيا في العام 1968، دخلت نادي الدول الغنية في أقل من ثلاثة عقود، بعدما ارتفع دخل الفرد فيها من 400 دولار، أواخر ستينات القرن الماضي، إلى 19.600 دولار، وفق أرقام البنك الدولي لعام 2019.
أتحدث هنا عن أرخبيل موريشيوس، الذي لا يتعدّى مساحة جزره مُجتمعة 2500 كيلومتر مربع، ويبلغ عدد سكانه 1.266 مليون نسمة، اعتمدوا الزراعة وسيلة للعيش، وسط نسبة من الأمية بلغت قبل الاستقلال نحو 70 في المئة، فيما هي اليوم دون العشرة في المئة، بعدما جُعل التعليم مُهمة الدولة الأساسية.
لا يوجد في تلك الدولة الصغيرة أي تمايز بين أبناء البلد، فالمسلمون والهندوس والمسيحيون يعيشون في مجتمع موحد، ورغم أن نسبة المسلمين 20 في المئة انتخبت في العام 2015 دكتورة الكيمياء أمينة غريب فقيم رئيسة للجمهورية، واستقالت بعد ثلاثة أعوام بسبب استخدامها بطاقة ائتمان لجمعية خيرية لشراء بعض السلع الخاصة؛ لأن المحاسبة لا تفرق بين رئيس ومرؤوس، وانتخب بدلاً منها الهندوسي الرئيس بريثفيراجسينغ روبون.
في العام 1992 عملت الدولة على تنويع مصادر الدخل، وأطلقت مجموعة من المشاريع الخدماتية، التي جعلتها الأولى في أفريقيا، وذلك عبر بنية تحتية تجارية، وقانون استثمار مُتطور، ونظام قانوني شفاف، جعل الاستثمار الأجنبيَّ فيها متقدماً جداً، فيما يتنوع الاقتصاد بشكل متزايد، وينشط القطاع الخاص في قطاعات السكر والسياحة ومناطق الخدمات الاقتصادية والمالية، ومثل ذلك أكثر من 72 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
اليوم يعيش 90 في المئة من مواطني هذه الدولة الصغيرة في منازل يملكونها، وفي هذا الشأن يا حبذا لو أن الكويت تستفيد من خطط ذلك الارخبيل في حلِّ قضيتها الإسكانية، التي مضى عليها نحو 60 عاماً، ولاتزال تُمثِّل مُعضلة لها، بل ربما يمكن أن تتعلم منها في مجالات الانفتاح والاستثمار والرعاية الصحية، وإلزامية التعليم القائمة على الشفافية والجدية، وغياب الواسطة والغش.
في مُقابلة صحافية مع أحد أساتذة جامعتها، قال حين سئل عن الثروة الأساسية للدولة: “إن تدمير أي أمة لا يحتاج إلى قنابل نووية، أو صواريخ بعيدة المدى، إنما سوء مستوى التربية والتعليم، والسماح للطلبة بالغش، وغض النظر عن إصدار شهادات مُزوَّرة كافٍ لحدوث الكارثة، فيموت المريض على يد طبيب نجح بالغش، وتنهار الأبنية على يد مهندس نجح بالغش، ونخسر الأموال على يد محاسب نجح بالغش، بل يموت الدين على يد رجل دين نجح بالغش، ويموت العدل على يد قاضٍ نجح بالغش، وينعدم الأمن على يد ضابط نجح بالغش، ويتفشى الجهل في عقول الأبناء على يد معلم نجح بالغش؛ ولذلك نحن نولي جودة التعليم أهمية كبيرة، ولا نسمح بالواسطة في مؤسساتنا التعليمية”.
هكذا تكون الدول التي تديرها الحكمة والمسؤولية الوطنية، وليس المُحاباة والانتماءات القبلية، أو الدينية، أو الحزبية؛ لأن الجميع يعمل من أجل الوطن لذلك تنهض وتستمر بالتطور، ولا تكون مُهددة بالزوال في أي يوم من الأيام؛ لأنَّ مسؤولاً أراد الاستحواذ على كلِّ شيء.