في الطريق إلى منطقة رميلان السورية المحاذية للعراق، وقفت ليلى ذات الـ14 ربيعاً على ربوة، وقد غطى الغبار معظم ملامح وجهها، إلى حد كان من الصعب التحقق من كونها فتاة بشعرها القصير.
بدت شاردة وهي تنظر إلى أرتال القادمين من الجبل وهم يثيرون الغبار حولهم.
قال مقاتل كان يساعد الناجين على ركوب عربة نقل صغيرة: «إنها هنا منذ ساعات وترفض المغادرة قبل أن يصل والدها، كنا نظنها فتى لكن العائلة التي جاءت معها قالت إن والدها قص ضفيرتيها في الطريق لكي تنجو من عيون مقاتلي دولة الخلافة».
قالت الفتاة بصوت مرتجف: «لقد فقدته في الجبل، ذهب لجلب الماء ولم يعد، لا أعرف ما حل به، سرت مع عوائل كانت ترافقنا في الأيام الثلاثة الأخيرة وهذه هي النقطة الأخيرة، لا أريد أن اغادر إلى سورية من دونه، هو رجل كبير، أخشى ألّا أراه مجدداً».
أم ليلى وأشقاؤها كانوا سبقوها إلى الجبل يوم غادروا المدينة، وهي لحقت بهم مع والدها. الأمر ذاته حصل لآلاف العوائل التي تشتت أفرادها، وانقطعت كل سبل التواصل بينهم.
مئات آخرون بلا عائلات
ليلى ليست الوحيدة التي تنتظر وهي أسيرة الخوف، لقاء قد لا تحظى به أبداً، فهناك مئات آخرون يعيشون المصير ذاته، وفق الناشط المدني جمال قادو الذي أكد وجود ثلاثين طفلاً في منطقة إينشكي شمال مدينة دهوك فقدوا أهاليهم ويتلقون الآن الرعاية من متطوع كردي، وهناك مئات آخرون يقيمون في مخيمات زاخو ودهوك وشاريا وخانكي وديربون تحت رعاية منظمات إنسانية وعوائل إيزيدية.
من بين هؤلاء فوزية حازم، وهي في الحادية عشرة من عمرها وصلت وحدها إلى دهوك بعد أن فقدت أثر 11 فرداً من عائلتها، وفق مكتب الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان في المحافظة.
في نهاية الطريق المؤمن من قبل المقاتلين الكرد، على الحدود السورية، بدا العجوز السبعيني جميل متماسكاً وسعيداً بنجاته «لقد أعدوا لقيامتنا، لكننا نجونا، مشينا حوالى أربعة أيام، كنت أصعد الجبل أحيانا على أطرافي الأربعة كالأطفال، وأحياناً كان يحملني ابني على ظهره، قلت له اتركني أموت هنا، لكنه لم يفعل».
عائلة جميل المؤلفة من تسعة أشخاص، بينهم أربعة أطفال، أمضت في الجبل 11 يوماً حصلت خلالها على وجبة عدس واحدة ووجبة برغل، وظلت بقية الأيام تطحن الحنطة وتخلطها مع الماء الملوث لتطعمه للأطفال، بينما حصل الكبار على قطع صغيرة من الخبز كانت كافية لإبقائهم أحياء.
لكن الحصول على الطعام والماء لبقائهم أحياء لم يكن همهم الوحيد، فالعائلة فقدت ثلاثة من أفرادها،هم: شاب في الثلاثينات لا أحد يعرف مصيره، وشقيقة أخذها مقاتلو الدولة الإسلامية مع زوجها.
تقول زوجة جميل، وهي تفترش التراب وإلى جانبها ابنتاها اللتان كانتا مصابتين بالتهابات في وجهيهما وعيونهما: «دعواتنا لم تتوقف كدموعنا منذ ذلك اليوم، نعيش الموت كل لحظة، هواتفهم مقفلة، ولا أحد يعرف عنهم شيئاً، إن كانوا أحياء أم لا، هناك مئات المفقودين نتمنى من الله أن يكونوا موتى، لا أن يكونوا أسرى عند داعش».
لكن حال عائلة جميل بدت أفضل بكثير مقارنة بحال فارس سليمان الذي فقد 30 فرداً من عائلته: «لم يعد هناك أحد… بناتي وأولادي وأشقائي اختطفوا جميعاً، لم يكن مقاتلو داعش وحدهم، بل كان معهم رجال عشائر عربية نعرفهم طوقوا بيوتنا وقتلوا كل من قاوم وأخذوا الفتيات والشباب».
فيصل حسن، وهو نازح آخر، وصل إلى منطقة رميلان السورية التي عبر إليها الهاربون من الجبل، بدا أكثر تفاؤلاً: «هناك إله في السماء، لا أصدق أنني نجوت مع أولادي من الموت عطشاً وجوعاً، وقبله من الذبح، استجاب الله لدعائنا، نعم فقدت طفلاً رضيعاً لكن هذه الأمة نجت مجدداً من الفناء».
إرادة الحياة لدى فيصل لم تكن غائبة عن آخرين خرجوا أحياء من الجبل.
كريم الذي ظل يدفع عربة نقل الحصى التي فرش عليها بطانية ووضعَ عليها شقيقه المعوق خدر، قال: «لم يكن ممكنا أن أذهب إلى الجبل وأتركه وحده في المنزل، كان علي أن أنقذه… ادعيت أنني مسلم وأنني ذاهب إلى بيت عمي لطلب المساعدة لشقيقي المريض، لكنني توجهت إلى الجبل… كنت محظوظاً فالذن صادفوني في الطريق صدقوني أو كانوا رحماء، لكن آخرين فشلوا في الوصول».
الأخ الأكبر ظل طوال خمسة أيام يدفع شقيقه في عربته في الطرق الجبلية الوعرة ويؤمن له الطعام والماء لإبقائه حياً، كان ذلك يتطلب أحياناً أربع ساعات من المشي نزولاً إلى الوادي، وصعوداً من جديد.
كريم الذي أصابت التقرحات وجهه، حكى عن أصعب لحظات رحلته: «في مدخل أحد الوديان، حين رمت العجوز خاتون بجسدها من على الجبل، لم تستطع المشي وكانت تخشى أن تعرقل فرصة إنقاذ عائلتها… خشيت أن يفعل شقيقي الأمر ذاته».
تابع كريم وهم يمسح دموعاً التمعت في عينيه: «طلب مني مرات عدة أن أتركه وأهرب… كان علي أن أبحث عن غذاء وماء، كنت حائراً كيف أمنحه الثقة بأنني سأعود وعليه أن ينتظرني… حلفت له مراراً أننا سنموت معاً أو ننجو معاً».
خاتون التي عجزت عن السير مع عائلتها، قررت في مساء اليوم الثالث إنهاء حياتها، يقول كريم: «ابنها ظل يومها يحملها ساعات لكنها لم تكن راغبة في ذلك، ورفضت تناول حصتها من الخبز، كان واضحاً أنها قررت الانتحار… ظل ابنها يبكي طوال تلك الليلة ويطلب منها السماح لأنه أخرجها من دون رغبتها من المنزل».
في صباح اليوم التالي دفنت العجوز التي تهشم جسدها قرب شجرة في المنطقة الوحيدة التي كان يمكن حفرها في الجبل الصخري «استخدمنا رؤوس الأحجار الحادة لحفر نصف متر، ثم ألقينا عليها الحجارة».
الرحلة التي لم تكملها خاتون، أكملتها ميان التي قضت عشرة أيام في جبل سنجار مع ابنيها اللذين حملاها على ظهريهما وأحيانا على نقالة، من قرية تل عزير شمال سنجار إلى سورية، في مسيرة نزوح لم تنقطع خلالها عينا ميان عن البكاء.
العودة إلى الوطن
طارق الياس الذي كان يغسل وجه ابنته من الغبار الذي علق به على حافة جسر فيشخابور الرابط بين سورية والعراق حين كان عائداً مع آلاف النازحين الذين اختفت ملامح الجسر تحت أقدامهم، قال وهو يحاول تهدئة ابنته التي كانت تبكي بسبب آلام الالتهابات التي خلفتها الشمس في وجهها: «تركنا كل شيء لننجو بأرواحنا… بيوتنا، مواشينا وسياراتنا، وحتى الذهب الذي كان في خزانات بيوتنا… لا نعرف ما هو مصيرنا».
وأضاف الياس وهو يرفع صوته ويهز بكلتا يديه أسفاً، بينما كانت زوجته تناديه للركوب في شاحنة غصت بالنازحين: «انتظرنا أسبوعاً كاملاً وصول مقاتلي البيشمركة، ثم عرفنا أنهم بعيدون عنا وأننا تركنا وحدنا، فتح مقاتلو الـPKK طريقاً من الجبل إلى مدينة سنونى ثم منطقة رميلان لإنقاذنا، لم يكن آمناً تماماً لكنه كان المفر الوحيد، مشينا تسع ساعات قبل أن نكون بأمان».
الياس كان قلقاً على ابنه الذي بقي في الجبل: «فضل أن يبقى هناك ويحارب، تركنا نكمل الطريق وحدنا، أردت منعه لكنه لم يستمع إلي ولا إلى أمه».
400 ألف نازح
في الـ12 من آب (أغسطس)، قدر مدير معبر فيشخابور شوكت بربهاري عدد النازحين من جبل سنجار الذين وصلوا إلى المعبر الذي يربط سورية بالعراق، بحوالى 75 ألف نازح فيما سجلت منظمة الهجرة العالمية في 11 آب، وصول 80 ألف إيزيدي نازح من جبل سنجار إلى دهوك، وهم من قدموا عبر طرق عدة، متوقعة ارتفاع الأرقام إلى الضعف مع استمرار تدفق النازحين، وفق نايف محمد المسؤول الميداني في المنظمة.
في 20 آب كشفت إدارة محافظة دهوك الكردية عن استقبالها 700 ألف نازح، غالبيتهم من الإيزيديين والمسيحيين الذين نزحوا من مناطق سهل نينوى (حوالى 250 ألفاً) وسنجار وزمار (400 ألف) التي وقعت تحت سيطرة الدولة الإسلامية، فضلاً عن وجود حوالى 30 ألف نازح من سورية ومن الموصل يقيمون في دهوك.
يشكل ذلك الرقم لمحافظة لا يتجاوز عدد سكانها المليون و200 ألف نسمة، ضغطاً هائلاً على البنية التحتية التي يقول محافظها إنها «مهددة بالانهيار»، مطالباً الحكومة الاتحادية بدعمها سريعاً لإغاثة عشرات الآلاف ممن تقدم جهات أهلية ومنظمات خيرية الطعام لهم حالياً.
ووفق مؤسسات إيزيدية، فإن 250 ألف إيزيدي تركوا مناطقهم بين 5 و15 آب، وتوزع هؤلاء في 700 مدرسة إلى جانب مئات الأبنية الحكومية والأهلية ومخيمات موقتة وهياكل بنايات غير مكتملة وحدائق عامة في مدينتي دهوك وزاخو والبلدات القريبة منهما، كما وصل عشرات الآلاف إلى محافظتي أربيل والسليمانية.
ويصف ناشطون في منظمات محلية أوضاع اللاجئين الحالية بـ «الكارثية»، مرجحين تعقدها أكثر مع تراجع الأعمال الخيرية المحدودة التي يقدمها الأهالي والتي تؤمن وجبة غذاء يومية لهم. «سيسوء الأمر أكثر مع حلول فصل الخريف وبدء انتشار الأمراض بين النازحين الذين يعانون من أوضاع صحية سيئة أصلاً بعد أسبوعين من الجوع والعطش» يقول الناشط سربست محمد.
الغالبية مع الهجرة
أمام واقعهم الحالي في مدن كردستان، وصعوبة تأمين مناطقهم التي ستظل الخط الأول لكل صراع بين الدولة الإسلامية وكردستان وبين العرب والكرد في المستقبل، يطالب معظم الإيزيديين بالهجرة إلى خارج البلاد، ويرفضون فكرة العودة إلى بلداتهم حتى لو تم إبعاد مقاتلي الدولة الإسلامية عنها. وبعضهم يطالب بإخضاع تلك المناطق لحماية دولية، لعدم ثقتهم بقدرة القوات الكردية على حمايتها.
معد التحقيق أجرى استطلاعاً في منطقتين انتشر فيهما النازحون الإيزيديون في زاخو ودهوك، شارك فيه 120 شخصاً، تضمن ثلاثة خيارات: الهجرة إلى أوروبا، حماية مناطقهم بقوات دولية، طرد «داعش» وإخضاعه مناطقهم لحماية البيشمركة.
وفق النتائج، فإن 58 في المئة من الإيزيديين الذين استطلعت آراؤهم فضلوا الهجرة، فيما فضل 37 في المئة منهم إخضاع مناطقهم للحماية الدولية.
يقول كاروان جلال، وهو ناشط مدني، إن تلك النتائج تعكس مزاج المواطن الإيزيدي الذي «فقد الثقة» بقدرة البيشمركة على الدفاع عن مناطقه حتى لو استردت «هي ستظل مهددة بغزوات مقاتلي دولة الخلافة». يضيف جلال: «فيما كسب الكرد تأييداً دولياً واسعاً بعد مذابح سنجار، فإن الإيزيديين دفعوا ثمناً غالياً».
جلال كلو، مواطن إيزيدي في الأربعينات من عمره، يفترش مع مئات آخرين جانب طريق في منطقة قريبة من معبر الخابور المؤدي إلى تركيا، يرفض كلياً فكرة العودة ويصر على الخروج بعائلته إلى تركيا ومنها نحو ألمانيا.
يقول كلو: «لدينا ضحايا لن ننساهم أبدا… خسرنا أموالنا ومواشينا وممتلكاتنا التي نهبت، لم يبق لنا شيء هناك، حتى لو طردوا «داعش»، فهل سيتركوننا نعيش بسلام وهم على حدود مدننا؟ وكيف نعوض ما خسرناه ونبدأ مجدداً حياتنا في حقل ألغام، الكلام سهل لكن الواقع غير ذلك».
القيادة الدينية والسياسية للإيزيديين، هي الأخرى ليست بعيدة من تلك المطالب، يقول حسين قاسم حسون، وهو شخصية إيزيدية التقت ضمن وفد إيزيدي كبير رئيس الوزراء في إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني: «الإيزيديون يريدون من حكومة كردستان فتح باب لطلب اللجوء الجماعي إلى أوروبا أو أميركا، كما يريدون حماية دولية لمناطقهم… قلنا إننا لن نقبل أن نعيش في إقليم لا تستطيع حكومته حمايتنا وحفظ شرف بناتنا مهما كان السبب».
يضيف حسون: «نريد فتح الباب لمن يريد الهجرة وتسهيل ذلك، ونطالب بحماية دولية لمن يقررون البقاء في سنجار».
لا ثقة بالقوات الكردية
بعد الإبادة التي تعرض لها الإيزيديون في سنجار عقب ما وصفه مسؤولون كرد بـ «الانسحاب التكتيكي من المدينة» لم تحظ تعهدات القادة الكرد باستعادة المناطق الإيزيدية وحفظ الأمن فيها، بثقة معظم الإيزيديين. ولم تلق فكرة إنشاء قوة خاصة بهم لإعادة السيطرة على سنجار وحمايتها قبولاً كبيراً في الأوساط الإيزيدية التي ترى أن الخطوة غير مجدية في مواجهة القوة الضخمة للدولة الإسلامية.
على رغم كونها ليست حلاً، فإن القوة التي وافق الإقليم على إنشائها وحصرها بأهالي سنجار من الإيزيديين والمسلمين، استقطبت خلال أيام مئات الشبان. وحظيت الفكرة بدعم من المجلس الروحاني الإيزيدي الذي أكد الناطق باسمه كريم سليمان، فتح ثلاثة مراكز للتطوع في مناطق سيميل وشيخان ودهوك، متوقعاً تسجيل ألفي متطوع كمرحلة أولى.
لكن هناك قوة ثانية قام بتشكيلها حزب العمال الكردستاني وهي تتلقى التدريبات لدخول سنجار. وهناك قوة ثالثة تمثل المقاتلين الإيزيديين المنتشرين في جبل سنجار وهؤلاء انتقدوا بشدة انسحاب البيشمركة من سنجار، واعتبروا ما حصل خيانة من جلنب القادة العسكريين لا يمكن أن تغتفر.
«هذا التشتت في القوى، يخلق شعوراً لدى الإيزيديين بأنهم قد يقعون مجدداً ضحية صراعات ومصالح حزبية يستفيد منها مقاتو داعش»، يقول سالار كريم.
شرخ مجتمعي
يرى الأستاذ الجامعي خلات سلو، أن مطالب طائفته بالهجرة مبررة: «وضعنا يختلف عن بقية المكونات، فنحن مهددون بالقتل ولا خيار لدينا غير الهجرة… المسيحيون سمح لهم بالرحيل أو البقاء مع دفع الجزية ورحبت دول أوروبية بهم، والتركمان الشيعة كان أمامهم أكثر من خيار وحصلت إعادة توطينهم في الجنوب، لكن ما الذي أمامنا نحن؟».
برهان عبدي، وهو رجل دين إيزيدي، وصف ما جرى لطائفته بأنه «إبادة بدافع التطهير العرقي، حصلت حين تخلى مقاتلو البيشمركة عن واجبهم، وخانت عشائر عربية عهود العيش المشترك»، مبيناً أن ما حصل أحدث شرخاً مجتمعياً لن يندمل سريعاً وسيظل شبحه يلاحق الإيزيديين.
واعتبرت الشخصية الإيزيدية البارزة عروبة بايزيد أن «الإبادة وقعت بمباركة الجيران المسلمين… للأسف، من كانوا مؤتمنين على حماية سنجار هربوا وسلموا المنطقة على طبق من ذهب إلى دولة الخلافة، فيما غدر العرب بنا حين رحبوا بمقاتلي دولة الخلافة وساعدوهم في الهجوم، واشتركوا معهم في نهب ممتلكاتنا».
عروبة أكدت أن وجود طائفتها في سنجار وهو الموطن الأول والأخير لهم أصبح مهدداً، مع عمليات الإبادة المستمرة هناك.
وفق أرقام وثقتها منظمات محلية ووزارات ومؤسسات عراقية، تعرض حوالى 900 رجل وشاب وطفل إيزيدي إلى الإبادة، بين 3 و18 آب، دفن حوالى 500 منهم في مقابر جماعية، إلى جانب خطف أكثر من ألف امرأة أخذن سبايا.
دلال شمو، وهي مدرسة تاريخ، قالت: «لا يمكن مقارنة ما يحدث لنا بأي ويلات سبق أن عشناها، إن مصيبتنا مزدوجة، فنحن نذبح لأننا إيزيديون ولأننا كرد، عقولنا لا تستوعب كل هذه القسوة، فهم لم يتركوا لنا خيارات كما تركوها للمسيحيين أو الشيعة، ليس بأيدينا شيء نفعله، سنظل نبكي عمرنا كله على ما حل ببناتنا».
يقول موظف البلدية سليم كامل الذي فقد ابنته: «تعرض الإيزيديون لـ72 مذبحة سابقاً، لكن هذه أشدها، لم يسبق أن سبيت نساؤنا، كانوا يقتلونهن مع الرجال، لكنهن اليوم يختطفن أمام مرأى العالم… كل ليلة أرى وجه ابنتي تناديني، أردد اسمها في كل حين، ليتنا لم نولد أبداً، ليتنا لم نعش لنشهد هذا اليوم».
هذا الخوف من الإبادة والشعور بنهاية التعايش المشترك، لا يشعر به الكردي المسلم ولا المسيحي، وهو يبدو مبرراً، فعدد من أمراء الدولة الإسلامية الذين تحدث إليهم معد التحقيق، أقرّ بقتل مئات الإيزيديين ممن رفضوا دخول الإسلام، وأخذ نسائهم سبايا «ما لم يعلنّ إسلامهن».
الأمراء في ولاية الموصل اعتبروا قتل الإيزيديين مباحاً شرعاً «هم كفرة يرفضون الدخول في الإسلام، وسنجار اليوم هي جزء من دولة الخلافة التي ليس فيها لغير المسلمين مكان إلا من دفع الجزية من أهل الكتاب».
الأمير أبو قدامة أكد أن «لا حدود لدولة الخلافة». وهو ما يضع كل الإيزيديين تحت الخطر الدائم للقتل والتهجير ما بقيت هذه الدولة قائمة على أطراف مناطقهم التي تمثل حزام إقليم كردستان.
يقول رجل الدين الإيزيدي بير شامو، إنهم اليوم مهددون أكثر من أي وقت مضى: «وجودنا في موطننا الرئيسي في خطر لأول مرة منذ قرون، وإذا خسرنا سنجار فسيكون كل وجودنا مهدداً… كنا في السابق قلقين من الهجرة لكنها ربما اليوم تمثل خلاصاً لكثيرين».
قبل أن يتحقق أمل عشرات الآلاف من الإيزيديين بالهجرة أو حماية مناطقهم دولياً، وهما خياران صعبا التحقيق، سيضطر معظمهم مرغمين على العيش في مخيمات موقتة تفتقد الكثير من أسس الحياة، وسيكون عليهم لأشهر عدة، تجميع مئات العوائل المشتتة وكشف مصير مئات المفقودين والبحث عن حلول تبدو مستحيلة لاستعادة حوالى ألف امرأة مختطفة.
وبصرف النظر عمّا ستؤول إليه مسارات الأحداث، فإن آلاف المكلومين بفقدان أبنائهم وبناتهم في فتوحات دولة الخلافة في مدينة سنجار، ينتظرهم شتاء قد يكون الأخير لهم على هذه الأرض.
شتاء سيكون الأقسى في حياة المعلم دخيل صالح الذي فقد كل عائلته ما عدا طفلته الصغيرة نسرين. صالح الذي كان يحتضن ابنته وهو يفترش الأرض على بعد بضع مئات من الأمتار عن الحدود التركية حيث يأمل بأن يتمكن من العبور عبر أراضيها إلى ألمانيا، قال: «انتهى وجودنا هنا… لن أعود أبداً إلى أرض أخذت مني كل من أحب».
أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج).