الرئيسية / أقسام أخرى / منوعات / مذكرات «رأفت الهجان» بخط يده: الحقيقة والأكذوبة (ح 1)
Image processed by CodeCarvings Piczard ### FREE Community Edition ### on 2014-09-30 08:14:01Z | |

مذكرات «رأفت الهجان» بخط يده: الحقيقة والأكذوبة (ح 1)

في يوم كهذا قبل 34 عامًا، كان يرقد في سريره ينتظر الرحيل، يكتب بأصابعه المريضة آخر الكلمات عن حياته، تلك التي حفلت بكثير من المغامرات والأسرار التي لم تكن سوى لعبة، بل أخطر ألعاب الدنيا، لم يختر هو أن يلعبها، بل فُرضت عليه، لكنه أتقنها حتى أصبح ملكها، إنها لعبة الجواسيس التي قادته من قلب القاهرة لقلب تل أبيب، ليصبح عينًا لا تنام، تراقب كل شيء وأي شيء في أرض العدو، ويصبح أهم «قطعة» للمخابرات المصرية في لعبة شطرنج، ربما لن تنتهي أبدًا، بينها وبين الموساد، إنه جاك بيتون، أو رفعت الجمال، أشهر جاسوس في تاريخ مصر، إنه من تعرفه أنت باسم «رأفت الهجان».

«المصري لايت» تنشر مذكرات الجاسوس المصري رفعت الجمال على حلقات، كما كتبها هو بخط يده، وحسب روايات زوجته، «فولتراود الجمال»، التي نشرتها في كتاب يحمل اسم «قصة الجاسوس المصري رفعت الجمال.. 18 عامًا من الخداع لإسرائيل»، عام 1994، وذلك بمناسبة اقتراب ذكرى وفاته في 30 يناير 1982.

«رسالة أخيرة على فراش الموت»

«لا أعتقد أنه من الإنصاف أبدًا أن يشتدّ بي المرض على هذا النحو، ولكن هذا أوصلني على الأقل إلى الاقتناع بأن أشرع فورًا في تدوين الحقيقة المتعلقة بي وبحياتي»، كلمات بدأ بها الجاسوس الراحل مذكراته، التي كتبها بخط يده وتركها لزوجته بعد وفاته، لتكشف لها الجانب الآخر من حياة زوجها، شخصيته المصرية التي تتخفّى خلف قناع إسرائيلي يحمل اسم جاك بيتون، لم تكن تعرف هي أن اسمه كان رفعت الجمال، لم يكن أبدًا يدين بالولاء لنجمة داوود الزرقاء وكان له عالم سري لم يفصح لها عنه أبدًا، وكانت السطور القادمة ستحمل لها كثيرًا من المعلومات عن شخصية زوجها، كانت المفاجآت قادمة وكثيرة.

«قد يقول قائل إنني عشت أكذوبة، لكن لم يكن أمامي خيار آخر. سأحاول أن أكتب كل شيء بلغة إنجليزية صحيحة قدر استطاعتي، وأنتِ يا (فالتراود) تعرفين أنني لم أكن قط أجيد الكتابة بالإنجليزية، فقد اعتدتِ دائمًا أن تصححي لي رسائلي، ومع ذلك فهذا بعض من حقيقتي، وأنا على ثقة من أنك ستفهمين كل شيء، وفور أن أفرغ من كتابة هذه المذكرات، سأعطيها إلى محامينا ليسلمها لك بعد ثلاث سنوات من وفاتي».

ربما يتساءل القارئ عن سر الثلاث سنوات، كما توقّع «الجمال» أن ينتاب التساؤل ذاته زوجته، ليطرح السؤال ويجيبه بنفسه: «لماذا ثلاث سنوات؟ حسنًا، أحسب أنه عندئذ سيكون قد مضى بعد الوفاة وقت كافٍ لتتماسكي وتصبحي فيه من القوة بحيث يمكنك تحمّل الصدمة التي ستشعرين بها عند قراءتك لهذا الكلام. إنني بصدد كتابة قصة حياتي الحقيقية، فثمة أشياء كثيرة لم تعرفيها عني، وكم أنا سعيد إذ أفرغ لك أخيرًا كل مكنون صدري، فعلى الرغم من أنك كنتِ رفيقة حياتي زمنًا طويلًا، فقد اضطررت لأن أعيش حياة المتوحد بلا رفيق أو صديق، لم يكن أمامي من سبيل آخر، احتفظت بكل شيء لنفسي رغمًا عني، حتى لا أعرضك أنت والطفلين للخطر، والآن حانت اللحظة التي استدعاني فيها الله، أشعر أنه يريدني إلى جواره».

واستطرد في رسالته: «ها هو مرضي ينهش جسمي من داخله، أحس بعض الألم وأخشى أن يزداد الأمر سوءًا، ليس الموت هو ما أخشاه بل الألم، فأنت تعرفين أني كنت دائمًا أخاف الألم مهما كان ضعيفًا، وأنا الآن على يقين من أنني مضطر إلى أن أصمد في مواجهة ما هو أسوأ».

لم يكن الألم يفارقه، ليس فقط بسبب المرض لكن كذلك بسبب حزنه على الآخرين، فأكمل رسالته قائلًا: «كم هو مؤلم أشد الألم على نفسي أيضًا أن أراكِ تعانين، وعلى الرغم من أنك تجاهدين بقوة لإخفاء المعاناة إلا أنني أستطيع أن أرى أنك تتعذبين، فأنا أعرفك جيدًا، وكم هو مرير على نفسي أيضًا أنني لن أستطيع أن أرى ابننا يكبر ويشب على الطوق، إنه الآن في السابعة عشر من عمره، في مرحلة يصبح بعدها رجلًا يافعًا، كم كنت أحب أن أكون له الهادي المرشد عبر سنوات نُضجه وتطوره، فقد راودني الأمل دائمًا في أن أراه في الجامعة، لكنني الآن لن أراه حتى حين يتخرج في المدرسة الثانوية، إن هذا ليؤلمني حقًا، هل تعدينني بأنك سوف تحرصين على أن يحصل على أفضل تعليم، أن تساعديه بكل قدرتك على المساعدة؟».

وتابع: «إنه لا يزال غرًا غير محنك تمامًا، بيد أن ثقتي فيه كبيرة. إنني على يقين من أنه سوف ينجح في كل ما يتصدى لعمله، لا يقلقك كسله، فقد اعتدت أن أكون كذلك، أعرف أنه يثق في ذكائه، ولكنني آمل في أن يكون مثابرًا دؤوبًا حتى يمكنك الاعتماد عليه. قولي لابنتنا إن بوسعها أن تثق تمامًا في أنني كنت أحبها دائمًا مثل حبي لابني. إني فخور بها، وأعرف أنها لن تخذلك. لا تكوني قاسية عليها، إنها شديدة الحساسية، وعلى الرغم من أنها عنيدة شيئًا ما إلا أنها تحبك وتحبني حبًا غامرًا، ولن تفعل أبدًا شيئًا يُغضِب أبويها».

وكأن الوقت يداهمه ويشعر بملك الموت يحوم حوله، قرر أن يختتم رسالته التمهيدية إلى زوجته: «أجد لزامًا عليّ أن أبدأ فيما أريد أن أبوح به إليك قبل أن يضيق الوقت ويحين الأجل، وقد بات حتمًا مقضيًّا. إنها قصة طويلة، وبينما تمضين في قراءتها سينمو السخط في نفسك عليّ، وتغضبين مني، وتودين لو أنك لم تلتقِ بي يومًا، غير أنني أعرف ما عرفته دائمًا، وهو أنك تحبينني حبًّا عميقًا جدًّا، ولك أن تثقي في أنني أبادلك نفس هذا الحب بنفس القدر. إن ما سوف تقرئينه هو الحقيقة كلها عن حياتي وعملي وشخصيتي. لا تُصدري حُكمًا قبل أن تفرغي من القراءة، وأرجو أن تصدقي أنني لم أكن أستطيع أن أفضي إليك بشيء، وإنني التزمت هذا النهج مُرغَمًا حمايةً لك وللطفلين. أنتم جميعًا حبي الأكبر، وأغلى شيء في حياتي».

وأنهى رسالته: «نحن الآن في شهر أغسطس 1981 ولست أدري كم بقي لي من الزمن قبل أن أقضي نحبي. أحس ببرودة في جسدي، وبأنني لستُ على ما يرام أبدًا، غير أنني سعيد إذ أستطيع أخيرًا أن أقصّ عليكم الحقيقة عن شخصي وحياتي، لذلك اقرئي هذه الصفحات لنلتقي من خلالها مرة ثانية، وكوني على يقين من أنك حبي الدائم، إن حبي لك وللطفلين لم يكن قط أكذوبة».

عن ALHAKEA

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*