في يوم كهذا قبل 34 عامًا، كان يرقد في سريره ينتظر الرحيل، يكتب بأصابعه المريضة آخر الكلمات عن حياته، تلك التي حفلت بكثير من المغامرات والأسرار التي لم تكن سوى لعبة، بل أخطر ألعاب الدنيا، لم يختر هو أن يلعبها بل فُرضت عليه، لكنه أتقنها حتى أصبح ملكها، إنها لعبة الجواسيس التي قادته من قلب القاهرة لقلب تل أبيب، ليصبح عينًا لا تنام تراقب كل شيء وأي شيء في أرض العدو، ويصبح أهم «قطعة» للمخابرات المصرية في لعبة شطرنج، ربما لن تنتهي أبدًا، بينها وبين الموساد، إنه جاك بيتون، أو رفعت الجمال، أشهر جاسوس في تاريخ مصر، إنه من تعرفه أنت باسم «رأفت الهجان».
ننشر مذكرات الجاسوس المصري رفعت الجمال على حلقات، كما كتبها هو بخط يده، وحسب روايات زوجته، «فولتراود الجمال»، التي نشرتها في كتاب، يحمل اسم «قصة الجاسوس المصري رفعت الجمال .. 18 عامًا من الخداع لإسرائيل»، عام 1994، وذلك بمناسبة اقتراب ذكرى وفاته في 30 يناير 1982.
«لقد ولدت في اليوم الأول من شهر يوليو من عام 1927 في مدينة دمياط بمصر، وهي مدينة تطل على الضفة الشرقية من الفرع الأيمن لنهر النيل، تقع على بُعد أحد عشر ميلًا من المكان الذي يصب النيل فيه ماءه في البحر المتوسط، ولعلك الآن تدركين لماذا كنت دائمًا أقرأ ما يرد تحت برج السرطان في أبواب الحظ في الصحف، على الرغم من أن جواز سفري يوضح أنني من برج الأسد. إن اسمي هو رفعت علي سليمان الجمال، كنت الشقيق الأصغر لثلاثة إخوة، أخي غير الشقيق سامي من الزواج الأول لأبي، وأخي الشقيق لبيب، وأختي نزيهة»، بهذه الكلمات بدأ الجاسوس المصري تعريف زوجته بعائلته وبقصة حياته في صغره.
واستطرد: «كان أبي، علي سليمان الجمال، تاجر فحم بالجملة، وشخصية محترمة لها مكانتها، ويحمل لقب «أفندي» الذي يعادل لقب «فون» في ألمانيا أو «سير» في بريطانيا العظمى. واسم العائلة الجمال، هو اسم الأب المؤسس لها، والذي استقر في دمياط منذ أجيال مضت، وتهيأت له فيها حياة ناجحة ميسورة بفضل تربية الجمال، ومن هنا جاء لقب الأسرة، الجمال، والذي يعني مُربّي الجِمال».
وأضاف: «كانت أمي رتيبة تنحدر من أسرة راقية، وكانت امرأة عصرية إلى حد ما، تتحدث الإنجليزية والفرنسية اللتين تعلمتهما في إحدى المدارس الخاصة. ولد أخي لبيب في العشرين من يناير 1923، أما أخي غير الشقيق سامي، الذي كان أكبر منا سنًا بفارق كبير، فقد أرسله أبي إلى القاهرة للدراسة تحت رعاية أقارب والدي، بعد أن قرر أن يلحقه بالمدرسة المتوسطة في القاهرة بعد أن أنهى بامتياز تعليمه في المدرسة الابتدائية بدمياط.
وعاد إلينا سامي في صيف 1930 وعمره سبعة عشر عامًا. كان قد أتم الدراسة الثانوية بتفوق والتحق بالجامعة ليصبح فيما بعد معلمًا للغة الإنجليزية. كان سامي يتحلى بمواهب عالية وكنت دائمًا شديد الإعجاب به، أذكر أننا التقطنا صورة تضم جميع أبناء الأسرة، فكان سامي هو الوحيد الجالس على مقعد وكنت أنا جالسًا في حجره، وكان هذا مدعاة لشعوري بزهو كبير، ولعلك تذكرين أنني قلت لكِ إن سامي كان معلمي عندما جاء ابنه محمد ليقيم عندنا في ألمانيا وقدمته لك باعتباره ابن أستاذي. كان سامي عاقلًا وحكيمًا ولذا كنت أكن له احترامًا عظيمًا».
واستمر في كشف أسراره: «أما أخي لبيب فكان من النوع الذي يُعمِل فكره ويحظى بقدرة جيدة على الحسابات، ومن ثم أصبح محاسبًا فيما بعد، وكنت أتعارك معه كثيرًا، غير أنه كان أخي في نهاية الأمر، هل تذكرين يوم أن حضر إلى بيتنا وقدمته إليكِ باعتباره رجل أعمال صديقًا من مصر. لم يلحظ أي منكم شيئًا فيما عدا ابننا دانييل الذي أصر على أن ثمة تشابهًا بيني وبين لبيب يشي بأننا أخوان، ولعلك تفهمين الآن سبب غضبي حين تشبث دانييل بملاحظته هذه.
كانت أختي نزيهة امرأة ذات قلب حنون طيب، والتحقت بمدرسة البنات الوحيدة في المدينة، وهي مدرسة خاصة. إنني أحبها كثيرًا جدًا إذ كانت دائمًا طيبة جدًا معي، حتى عندما تحتدم المنازعات بيني وبين سامي ولبيب.
كنت شيطانًا صغيرًا. لم تواجهني مشاكل تُذكر في المدرسة التي التحقت بها، وكانت هذه المدرسة أيضًا مدرسة خاصة مجاورة لمسجد عبدالغني المقابل لقسم أول شرطة. كنت كسولًا إلى حد ما، ولعلك تدركين الآن من أين جاء كسل ابننا.
تُوفي أبي عام 1936 وكنت في التاسعة من العمر، وكانت نزيهة في الحادية عشرة، وكان لبيب في الثالثة عشر، أما سامي، البالغ من العمر آنذاك الثالثة والعشرين، فكان قد تخرج في الجامعة منذ فترة، وأصبح يعمل مدرسًا للغة الإنجليزية في المدرسة الابتدائية في مصر الجديدة بالقاهرة، وأحسب أنكِ تعرفين مصر الجديدة جيدًا، حيث كان مكتب شركتنا (آجيبتكو)».
وأكمل «الجمال» قصته وهو على فراش الموت: «أصبح سامي رأس الأسرة منذ ذلك الحين، ومن ثم أتى بنا جميعًا، ومعنا أمنا إلى مصر الجديدة، كان يسكن في شارع يعقوب أرتين، المتفرع من ميدان الإسماعيلية، وأشرفت أمي على شؤون البيت، واستطاعت نزيهة أن تحقق حلمها، وتلتحق بالمدرسة الثانوية للبنات في مصر الجديدة.
التزم لبيب بمشورة سامي والتحق بمدرسة تجارية متوسطة، حيث تعلم إمساك الدفاتر والإدارة، والتحقت أنا بمدرسة ابتدائية حكومية تحت رعاية سامي كولي أمري. وفي صيف 1940، أكملت تعليمي بالمدرسة الابتدائية بتفوق، وستجدين في هذه الأوراق شهادتي المدرسية. كنت آنذاك في الرابعة عشر من العمر، وكان سامي يريد أن يتزوج ويبدأ حياته الأسرية الخاصة.
قرر سامي هو وأمي أن التحق بمدرسة تجارية للحصول على مؤهل متوسط، وإذا كنت أريد مزيدًا من التعليم الأرقى، فإن بإمكاني أن أعمل نهارًا وألتحق بمدرسة مسائية، وبذا يمكنني أيضًا أن ألتحق بالجامعة، وبدا هذا أفضل الحلول نظرًا لأن لبيب لم يكن راغبًا في رعايتي وتولي مسؤوليتي لفترة أطول كثيرًا، وهكذا تحدد مصيري، لم تكن لدي أدنى فكرة عن كل هذا وقبلت قرار عائلتي، ونظرًا لأنني كنت في الرابعة عشر من عمري فلم يكن أمامي خيار آخر».