الرئيسية / أقسام أخرى / منوعات / مذكرات رأفت الهجان بخط يده: بداية انزلاقي في الجاسوسية (ح 8)

مذكرات رأفت الهجان بخط يده: بداية انزلاقي في الجاسوسية (ح 8)

في يوم كهذا قبل 34 عامًا، كان يرقد في سريره ينتظر الرحيل، يكتب بأصابعه المريضة آخر الكلمات عن حياته، تلك التي حفلت بكثير من المغامرات والأسرار التي لم تكن سوى لعبة، بل أخطر ألعاب الدنيا، لم يختر هو أن يلعبها، بل فُرضت عليه، لكنه أتقنها حتى أصبح ملكها، إنها لعبة الجواسيس التي قادته من قلب القاهرة لقلب تل أبيب، ليصبح عينًا لا تنام، تراقب كل شيء وأي شيء في أرض العدو، ويصبح أهم «قطعة» للمخابرات المصرية في لعبة شطرنج، ربما لن تنتهي أبدًا، بينها وبين الموساد، إنه جاك بيتون، أو رفعت الجمال، أشهر جاسوس في تاريخ مصر، إنه من تعرفه أنت باسم «رأفت الهجان».

«جريدة الحقيقة» تنشر مذكرات الجاسوس المصري رفعت الجمال على حلقات، كما كتبها هو بخط يده، وحسب روايات زوجته، «فولتراود الجمال»، التي نشرتها في كتاب يحمل اسم «قصة الجاسوس المصري رفعت الجمال.. 18 عامًا من الخداع لإسرائيل»، الصادر عن «دار الأهرام للترجمة والنشر»، عام 1994، وذلك بمناسبة اقتراب ذكرى وفاته في 30 يناير 1982.

وافق رفعت الجمال على العرض الذي تلقاه من ضابط البوليس السياسي، حسن حسني، ليصبح عميلًا للجهاز الأمني داخل الطائفة اليهودية، لمعرفة كيفية تهريبهم للأموال خارج مصر، ويروي ما حدث معه بعد ذلك في مذكراته قائلًا: «وبدأت فترة التدريب مكثف. شرحوا لي أهداف الثورة وفروع علم الاقتصاد، وتعلمت سر نجاح الشركات متعددة القوميات، وأساليب إخفاء الحقائق بالنسبة لمستحقات الضرائب، ووسائل تهريب الأموال، وتعلمت بالإضافة إلى ذلك عادات اليهود وسلوكياتهم، وتلقيت دروسًا مكثفة في اللغة العبرية كما تعلمت تاريخ اليهود في مصر وأصول ديانتهم، وعرفت كيف أميز بين اليهود الأشكيناز (من شرق أوروبا) والسفارد (من إسبانيا والبحر المتوسط)، والشازيد (من طائفة اليهود الحسينيين الذين نشأوا في بولندا وأوكرانيا وغيرها).

وأضاف: «حفظت عن ظهر قلب، الشعائر اليهودية وعطلاتهم الدينية حتى أنني كنت أرددها وأنا نائم، وتدربت أيضًا على كيفية البقاء على قيد الحياة معتمدًا على الطبيعة في حالة إذا ما اضطرتني الظروف إلى الاختفاء فترة من الزمن. وتدربت بعد هذا على جميع عادات الشرطة السرية للعمل بنجاح متخفيًا، وأخيرًا تقمصت شخصيتي الجديدة، وأصبحت منذ ذلك التاريخ جاك بيتون، المولود في 23 أغسطس عام 1919 في المنصورة، من أب فرنسي وأم إيطالية، وأسرتي تعيش الآن في فرنسا بعد رحيلها من مصر، وهي أسرة كانت لها مكانتها وميسورة الحال، وديانتي هي يهودي أشكينازي، وتسلمت وثائق تحمل اسمي الجديد والتواريخ الجديدة».

وخرجت إلى العالم بهذه الشخصية الجديدة، وبكل ما تعلمته قصدت الإسكندرية مباشرة، كنت رسميًا في الرابعة والثلاثين من العمر آنذاك، وإن كنت أبدو أصغر سنًا، وتسلمت رقم تليفون، وتحدد لي موعدا للاتصال عن طريقه، والإفادة بما لدي من معلومات.

وصدرت لي تعليمات بأن يكون الاتصال مع حسن حسني فقط عن طريق هذا الرقم، إذ كان هو الوحيد، لدواعي الأمن، الذي يعرف دوري ومهمتي.

وعثرت في الإسكندرية على شقة صغيرة جميلة في منطقة يكثر بها اليهود، وحصلت على وظيفة كاتب في إحدى شركات التأمين، ورويدًا رويدًا تزايدت ثقتي بنفسي وزالت مخاوفي وبدأت (أقتنع) بأنني يهوديًا.

وبعد فترة قصيرة قابلت ليفي سلامة، الذي زاملته في زنزانة السجن وقتما كنت نزيلًا به في فترة سابقة باسم ديفيد آرونسون. حياني كصديق قديم واصطحبني وقدمني إلى أصدقائه، وعلى الرغم من حذري إلا أنني كنت على يقين من أنه صدقني وسلم بأن هذه هي حقيقتي، وبذا كان مفتاحي إلى قلب الطائفة اليهودية، وحيث أنني لم أكن قد قلت له اسمي قبل ذلك، فلم أجد مشكلة في تقديم نفسي له باسم جاك بيتون.

وبعد ثلاثة أيام من لقائنا قابلني بعد انتهاء العمل وقدمني إلى امرأة شابة تدعى (مارسيل نينو) كانت في زيارة إلى القاهرة.

وكان واضحًا في ضوء ما تعلمته في السابق أن القصد من اللقاء هو أن تتفحصني بدقة نيابة عن ليفي سلامة وأصدقائه، وحيث أنني كنت أعرف الهدف جيدًا من اللقاء، فقد اجتهدت وسارت الأمور على ما يرام.

كانت (مارسيل) امرأة جذابة، ومن ثم لعبت عليها وبدأت علاقة معها. جذبت كل الخيوط التي أعرفها، وسرعان ما كسبتها في صفي، وقدمتني لرجل كان يحمل لحساب نفس المجموعة. كان اسمه إيلي كوهين، أبواه من سوريا ولذا كان يتحدث العربية بلكنة سورية، وهو يهودي وعضو له مكانته وسط الطائفة اليهودية في المدينة.

أصبحنا صديقين وبدأنا نقضي معًا وقتًا طويلًا، وكان (سلامة) قريبًا منا أيضًا، وذات يوم قلت له إنني أريد إخراج مبلغ كبير من أموال الأسرة إلى خارج البلاد، وثبت صواب شكوكي من أن سلامة متورط مع المسؤولين المباشرين عن هذا، إذ تلقف الكرة على الفور، وأتاني بعروض عديدة رفضتها جميعًا بحجة أنها غير جادة.

مارسيل نينو

وبالطبع، كنت أبلغ حسن حسني بانتظام بكل ما أتوصل إليه من معلومات، حاولت أن أتعقب (سلامة) لأكتشف قنوات نشاطه وأسلوب عمله. جاهد للتمويه عليّ غير أنني في النهاية ظفرت به، عرفت أن التنظيم يرأسه رجل أعمال انجليزي من سويسرا، اسمه جون دارلينج، وتلقيت من حسن حسني مبلغًا كبيرًا من المال لأسلمة إلى (سلامة)، نجحت الخطة، ووضع حسن حسني (سلامة) تحت المراقبة، وتم القبض على كل المنظمة متلبسة في مصر، ولم يكتشف أحد أمري وقمت بدور الضحية، إذ بدوت في صورة شاب خسر ثروته بسبب (سلامة).

نجح الغطاء الذي اتخفى تحته، وتلقيت تعليمات للتأكد من حقيقة إيلي كوهين. أصبحنا صديقين بمرور الزمن، ووثق بي (كوهين) وقال لي الكثير من أسراره.

اكتشفت أنه نشيط جدًا في مناهضة البريطانيين، وأنه يساعد اليهود على الهجرة من مصر إلى إسرائيل، وعرفت أنه عضوًا نشيطًا لحساب مجموعة (العالياه بيت) المسؤولة عن تنظيم عمليات الهجرة إلى إسرائيل.

الضابط الإسرائيلي أفرام دار، الذي دخل مصر متخفيًا تحت اسم «جون دارلينج»

وخلال هذه الفترة كانت المخابرات العسكرية السرية الإسرائيلية (الأمان) قد بدأت تنشط داخل مصر، وكان الكولونيل أفراهام دار على رأس الوحدة الخاصة التي أنشأتها في مصر للشروع في سلسلة من الأعمال التخريبية ضد المؤسسات الأجنبية لتبدو الأحداث في صورة أعمال إرهابية يرتكبها الوطنيون المصريون، وتم تجنيد (كوهين) ضمن هذه المجموعة، وبناء على أوامر من حسن حسني عمدت إلى إقناع (كوهين) بضمي إلى هذه المجموعة أيضًا.

وهكذا أصبح دوري الآن أشد خطرًا بكثير من السابق، فها أنا ذا الآن أتعامل مع قضايا عسكرية وليس مع مواطنين عاديين يقترفون جريمة ما، ثم إن المجموعة التي كنت أتابع حينذاك نشاطها متخفيًا لم تكن تتورع عن قتل عدوها، لا أدري ما الذي حفزني إلى ذلك، غير أنني كنت مقتنعًا تمامًا بأني أعمل كل ما في وسعي لكي أساعد بلدي.

وحضر حسن حسني بنفسه إلى الإسكندرية لكي يسمع مني معلوماتي، وما أن وصلت إلى النقطة الخاصة باجتماعنا السري حتى وجدته بصحبة رجل آخر.

إيلي كوهين

عرفنا ببعضنا، كان هذا الرجل هو (علي غالي)، المسؤول في مصر عن نشاط الجاسوسية والجاسوسية المضادة، وحيث أن مهمتي الآن أصبح لها طابع دولي، فقد أصبح (غالي) مسؤولًا عني، إذ كان حسن حسني مسؤولًا فقط عن القضايا الداخلية.

شكرني (حسني) على جهودي حتى الآن، وتركني مع علي غالي وحدنا. قال لي (غالي) إنه فخور بجهدي حتى الآن، ويريدني أن أبقى على العهد وأكون عند حسن الظن. وأخبرني أن الاستعدادات تجري لتوسيع نشاط جهاز المخابرات المصري. وأضاف أنني الآن أصبحت واحدًا من عملائه، ويتوقع مني أن أستمر في عملي مثلما كنت في السابق.

اختلط علي الأمر وإن لم يهن عزمي، وأيقنت أنني انزلقت إلى ميدان الجاسوسية، لم أدرك الفارق، وفي عام 1953، كنت ضمن مجموعة كولونيل أفراهام دار، ومعي إيلي كوهين، ونظرًا لوجود مجموعات مماثلة لهذه المجموعة في البلدان العربية الأخرى، فقد أطلق على التنظيم الموجود في مصر اسم (الوحدة 131)».

لمراجعة الحلقات السابقة: 

الحلقة الأولى: الحقيقة والأكذوبة

الحلقة الثانية: يكشف شخصيات عائلته الحقيقية

الحلقة الثالثة: «تزوجت شقيقتي الملازم أحمد شفيق وحرمت من حنانها»

الحلقة الرابعة: ابن دمياط يصل أوروبا بعد ترك الراقصة (بيتي) واتهامه بالسرقة

الحلقة الخامسة: «سيدات أوروبا أغرقوني بالأموال لتمضية وقت معهن»

الحلقة السادسة: زورت 3 جوازات سفر فاعتقدوا أنني يهوديًا وألقوا بي في السجن

الحلقة السابعة: وجهًا لوجه مع أول ضابط مخابرات مصري

عن ALHAKEA

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*