كُنتُ سابقا في مجتمعي الصغير الذي لا يتعدى حدود المدرسة والعائلة لا أرى الكثير من العادات الغريبة التي تثيرُ استغرابي وربما شكوكي… باعتبار أن زميلاتي اللاتي يشاركنني الفصل الدراسي ينحدرن من نفس الولاية ويشاركنني العمر ذاته وفصيلة الجنس ذاتها ، اما بعد التحاقي للدراسة الجامعية وجدتُ ذاك الاختلاف الذي يمكن له أن يرسم لوحة من الدهشة يُضيف إليها في كل يوم لونا مميزا ، فلا يكمنُ الاختلاف فقط في الولايات والأجناس والأعمار ، بل ربما وحتى الأديان .
بعيدا عن كل هذا … سأذكر لكم بعض الطرائف التي تنمّ عن جهل وتقليد أعمى لعادات كانت سائدة دون أن نفهم السبب من فعلها وهذا يذّكرني بالقصة الشهيرة لتلك الفتاة التي كانت تطبخ السمكة بعد قطع ذيلها ورأسها وبعد أن تمّ سؤال الجدّة عن السبب … كان جوابها بأن القِدر الذي كانت تطبخ فيه كان صغيرا ولا يكفي لإضافة الذيل والرأس … حيث أن الأم قلدّت التصرف دون تفكير وقد قلدّتها ابنتها دون تفكير كذلك حتى وإن كان القدِر يتّسع لذبيحة … فكم من الرؤوس والذيول قد تم فقدها لهذا التصرف الأعمى !
من خلال جولاتنا الشبه الشهرية لقسم الباطنية صُدمنا بفعل ذاك الرجل المسنّ ، فلقد تناول الزئبق تقيّدا بمعتقد زائف ما زال البعض يؤمن به وهو أن الزئبق يحمي من المسّ والجن ، ويُعيد للفرد صحته وشبابه ، وأنا ما زلت أتساءل ان كان هذا الكلام صوابا … اذاً فلما نرى هذا الرجل طريح الفراش بنصف حياة؟
لقد كان شكل الزئبق في الأشعة المستخدمة شبيها لشكل النجم المضيء الذي يسكن الفضاء…. شيء مُشع يسكن معدة وأمعاء هذا الرجل .
ومنذ ذاك اليوم وأنا أقرأ كل موضوع تقع فيه عيناي حول الزئبق ، وخاصة الزئبق الأحمر الذي انتشر عنه بأنه أغلى أنواع الزئبق ، وأكثرها جودة … طبعا فيما يتعلق بأمور الدجل والشعوذة – والعياذ بالله- وبما ان أمور الدجل والشعوذة ما هي إلا أكاذيب من ضعّاف النفوس ، فسيكون الزئبق الأحمر كذلك خدعة لكسب الأموال وجرّ ضُعاف الايمان لشرائه بأغلى الأثمان ، وتقديمه للمشعوذين من أجل التقرب للجن أو الحصول على تلك الكنوز التي يحرسها الجن – بحسب أقاويل المشعوذين – وهناك فئة من الناس تكتفي بحمل الزئبق من أجل فتح ابواب الرزق ولكن أحوالهم بعد ذلك تنتكس وتجارتهم تفشل وهذا ليس حالهم فقط بل حال كل من يتوكل على غير الله .
نعود الآن لموضوع الزئبق الأحمر الذي أكدّت الكثير من المصادر بأنه لا وجود له ، وإن كان فسيكون فقط هو نفسه الزئبق الفضي بعد تعرضه للأكسدة فإنه يتحول للون الأحمر، أما بالنسبة لقيمته فهي ليست بذاك المقدار من الغلاء ، لنتوصل في النهاية إلى أن الزئبق هو عنصر فلزي سائل يمكن استخدامه في العديد من الصناعات كصناعة الثيرمومتر الطبي ، وليس له أي تأثير في عوامل الرزق والصحة والثراء ، بل أن له آثار ضارة عند استنشاق الأبخرة المتصاعدة منه على الجهاز التنفسي ، والعصبي ، وتكرار لمس الزئبق يؤدي إلى تهيّج الجلد ولا يمكن امتصاصه سريعا من قبل الجهاز الهضمي لذلك فمتى ما تناوله الشخص فإنه يُرافقه طوال حياته أو يعيش معه ليُسبب له أضرارا جسيمة لا تقتصر فقط على الأجهزة الحيوية التي ذكرتها سابقا بل تتعداها لتؤثر كذلك على الخصوبة وإضعاف القلب والجهاز المناعي ، وزيادة عدد كرّيات الدم الحمراء ، وارتفاع ضغط الدم على المدى البعيد. فبعد كل هذه النتائج هل ما زالت لدينا الرغبة في تناول الزئبق السائل أو استنشاق أبخرته ، أو حتى اللعب به ؟ لا أظن ذلك حقا!
بقلم: فوزية البدواوي