في بعض الأحيان يستغل بعض القادة العسكريين ذوي الطموح المرتفع، خاصة في بلاد إفريقيا وأمريكا اللاتينية، أوضاع التردي السياسي والاقتصادي أو التململ الشعبي، ضد الحاكم، لينفذوا انقلابا عسكريا يحقق لهم رغبتهم في الحكم، معتمدين على بعض الرضا الشعبي، مع وعد الشعب بوضع سياسي واقتصادي أفضل، وهذا السيناريو المكرر نجح عشرات المرات في دول كثيرة من بينها تركيا.
ولكن الانقلاب الذي خطط له قادة الجيش في تركيا، يعد الانقلاب الأغبى ربما في التاريخ، لأنه لم يعتمد على ظهير شعبي، ولم يقدم اختيارات واضحة للمستقبل، ولم يقم على نظام استبدادي بل قام على نظام ديمقراطي يحقق طفرات اقتصادية غير مسبوقة.
أردوغان الذي نجح في تحجيم دور الجيش في السياسة على مدار 14 عاما، منذ توليه السلطة وقتها وحتى الآن، أصبح له ظهير شعبي عصي على أي انقلاب عسكري.
فقد حقق حزب العدالة والتنمية فوزا في الانتخابات البرلمانية التركية التي أجريت مؤخرا وحصل فيها على نسبة 50 % من الأصوات، ليشكل الحكومة بمفرده.
ويكاد يجمع المحللون والمراقبون السياسيون أن الشعبية الكبيرة لأردوغان وحزب العدالة والتنمية، التي تجعلهم أقوى من أي محاولة لقائد عسكري يريد الإطاحة بهم، ترجع لأربعة أسباب أو عوامل رئيسية؛ أولا، ما حققه الحزب من إنجازات اقتصادية هائلة أشبه ما تكون بالمعجزة، ثانيا، الاستقرار السياسي، والإصلاحات الديمقراطية والدستورية التي قام بها خلال فترة حكمه، ثالثا، السياسة الخارجية الناجحة، والدور الإقليمي والدولي الفاعل، الذي قامت به حكومة حزب العدالة والتنمية، رابعا، الشخصية الكاريزمية لزعيم الحزب رجب طيب أردوغان.
إنجازات اقتصادية
يشكل نجاح حزب العدالة والتنمية في النهوض بالاقتصاد التركي، خلال فترة حكمه منذ عام 2002 وحتى الآن، أحد أهم عوامل ازدياد شعبية الحزب جماهيريا، والسبب الرئيسي وراء فوزه التاريخي في الانتخابات المتتالية.
فحينما جاء الحزب إلى السلطة، كان الوضع الاقتصادي المتدهور والانهيار التجاري والمالي لتركيا يشكّل التحدي الأول والأصعب أمامه، وقد استطاع الحزب خلال فترة حكمه، بقيادة رجب طيب أردوغان – عبر السياسات الاقتصادية الإصلاحية التي تمّ انتهاجها – النهوض بالاقتصاد التركي بما يشبه المعجزة، ما انعكس إيجابيا على نظرة الشعب التركي للحزب، خاصة بعد عقود طويلة من فضائح الفساد والرشاوى والبؤس المالي والاقتصادي الذي عاش فيه الأتراك في ظل الحكومات العلمانية والقومية المتتالية على الحكم.
فعندما جاء العدالة والتنمية إلى الحكم كانت الأوضاع الاقتصادية قد وصلت إلى الحضيض من كل النواحي، حيث كانت نسبة النمو بالكاد تتجاوز 3% مع ثبات هذه النسبة منذ بداية التسعينات عند هذا المعدل وحتى عام 2002، وكان متوسط دخل الفرد لا يزيد عن 3000 دولار في العام، وكان الناتج المحلي لا يزيد عن 300 مليار دولار، وكان أمام حزب العدالة والتنمية كل هذه التحديات فوق تحد آخر هو انحطاط سعر الليرة التركية وفقدانها 70 % من قيمتها.
بوصول الحزب إلى السلطة بدأ رجب طيب أردوغان بمعالجة الأوضاع الاقتصادية محددا هدفه البعيد في ذلك؛ وهو أنه لكي تعود تركيا لقوتها ولمكانتها التي غادرتها قبل نحو تسعين عاما حين سقطت كإمبراطورية تحكم ثلاث قارات يجب أن تكون قوية اقتصاديا.
وبالفعل فإن ما حققته الحكومة التركية من نهضة اقتصادية بقيادة حزب العدالة والتنمية في تسع سنوات قد فاق كل ما حققته الحكومات التركية في فترة الجمهورية منذ العام 1923 وهو ما يوصف بالمعجزة الاقتصادية.
وهي معجزة لأسباب عدة: أولاً، لأن «العدالة والتنمية» وصل إلى الحكم على صهوة الأزمة الاقتصادية الهائلة لعام 2001، التي أفقدت الليرة التركية الجزء الأكبر من قيمتها الشرائية، وأورثت الحكام الجدد اقتصاداً مهترئاً بسبب الوصفات الكارثية للبنك الدولي وصندوق النقد، اللذين كان وزير الاقتصاد كمال درويش أشبه بمندوبهما في أنقرة.
ثانياً، لأن الأزمة المالية العالمية الأكبر في تاريخ الرأسمالية حصلت في عهد أردوغان ورفاقه.
ثالثاً، لأن أسعار النفط (الذي تعتمد عليه تركيا كلياً في كل وجوه دورتها الاقتصادية) كسرت الأرقام القياسية في عهد الإسلاميين المعتدلين الحاكمين أيضاً.
وقد تمثلت أهم مؤشرات تقدم الاقتصاد التركي في عهد العدالة والتنمية فيما يلي :
قفز الناتج القومي الإجمالي بين عامي 2002- 2008 من 300 مليار دولار إلى 750 مليار دولار، بمعدل نمو بلغ 6.8 %.
قفز معدل الدخل الفردي للمواطن في نفس السنة من حوالي 3300 دولار إلى حوالي 10.000 دولار.
تحققت مستويات ملحوظة من توزيع العائدات.
تجاوزت الدولة إلى حد كبير مشكلات العجز والتضخم.
تحسنت أجواء الاستثمار، حيث دخلت تركيا بين أكثر الدول جذبا للاستثمار الخارجي.
أصبحت تركيا في المرتبة السادسة عشرة في ترتيب أكبر الاقتصاديات على المستوى العالمي، والسادسة على المستوى الأوروبي، وبذلك تضيقت الفجوة ولأول مرة بهذه النسبة بين معدلات التنمية التركية ومعدلات التنمية الأوروبية وأصبحت تركيا من بين مجموعة العشرين G-20.
حققت القطاعات الاقتصادية المختلفة نموا وتقدما كبير، ففي قطاع الزراعة تعتبر تركيا واحدة من الدول القليلة في العالم التي حققت اكتفاء ذاتيا من الغذاء.
كما سجل القطاع الصناعي نموا هائلا بعد عمليات التحرير الاقتصادي وارتقى مستوى الإنتاج في هذا القطاع إلى المعايير العالمية.
كما حققت تركيا تحسنا كبيرا في العلاقات الاقتصادية والتجارية إقليميا وعالميا وشهدت الشركات التركية نموا استثنائيا من خلال توسعها في شتى أسواق العالم.
ويلاحظ أن ما تم تحقيقه من إنجازات كان واضحا ومنعكساً فعلاً على الشعب التركي ورفاهيته، سواء بإقامة الطرق السريعة والمستشفيات الكبرى، وتوسيع مظلة التأمين الصحي، أو تقليل نسبة البطالة وتوفير الوظائف ورفع الحد الأدنى للأجور، ورفع مستوى المعيشة وتحقيق مزيد من النمو الاقتصادي الذي أقرت به مؤسسات دولية معتبرة، منها صندوق النقد الدولي، وغيرها من الإنجازات التي لمسها المواطن التركي العادي أيضا.
استقرار وإصلاحات سياسية
يمثل الاستقرار الذي نعمت به تركيا في ظل حكم العدالة والتنمية السبب الثاني لزيادة شعبية الحزب وفوزه، حيث يحترم الكثير من الأتراك أردوغان لإعادته الاستقرار إلى البلاد التي عانت من عقود من الائتلافات الفوضوية والانقلابات.
فبعد تاريخ طويل من الانقلابات العسكرية والتغيير في الأنظمة، تمتع الأتراك، طوال فترة حكم العدالة والتنمية، بالاستقرار السياسي، والنفوذ الدولي.
ولعل من أبرز السمات التي جعلت من تركيا دولة حاضرة على الساحة الدولية الاستقرار السياسي الذي شهدته بعد عقود من الاضطراب والصراع السياسي الذي كاد يعصف بالبلاد، فعلى المستوى الداخلي تمكن الحزب من إطلاق مشروع سياسي ديمقراطي يقترب من مقاييس الديمقراطية الغربية، واستطاع أن يرسخ صورة ناجحة إلى حد كبير من الممارسات الديمقراطية وفقا لمعايير الاتحاد الأوروبي.
فقد حقق العدالة والتنمية بزعامة أردوغان سلسلة إصلاحات سياسية داخلية، لعل أهمها التعديلات الدستورية التي تم إقرارها، وأعطت هذه الإصلاحات دفعة قوية للحياة السياسية في البلاد، كما حققت حالة من التعايش بين الإسلام السياسي والعلمانية المتمثلة بالجيش بعد عقود من الصراع الأمني والدموي بينهما.
ويرى المحللون أن الناخب التركى صوّت لصالح حزب العدالة والتنمية دعما لتصدى الحكومة لمحاولات ومخططات الانقلابات التى تورط فيها عدد من العسكريين المتقاعدين، وآخرين لا يزالون بالخدمة ومنها قضية أرجنكون، والمطرقة والقضايا الأخرى المستمرة منذ عام 2007.
فقد استطاع أردوغان أن يجرد الجيش من الدور الذي يضطلع به منذ فترة طويلة، بصفته الجهة التي تصدر الأحكام على أداء السلطة من وراء الكواليس في النظام السياسي التركي.
واستطاع أن يقود تركيا إلى إصلاحات وتحوّلات مهمة على طريق تعزيز الحريات والديموقراطية، وفي مقدمتها ضرب صورة المؤسسة العسكرية كأداة لا يمكن ردّ قضائها، وضرب قدرتها على القيام بدور سياسي مؤثر وصولا إلى الانقلابات العسكرية، وهي الإصلاحات التي لاقت ترحيبا كبيرا لدى غالبية الشعب التركي خاصة وأنها قربت تركيا من المعايير الأوروبية.
ثقل إقليمي ودولي
حققت السياسة الخارجية لتركيا في فترة حكم حزب العدالة والتنمية قفزة هائلة تجاه مختلف الدوائر الجغرافية المحيطة بتركيا والقضايا المثارة، فمن نظرية صفر المشكلات إلى التطور الكبير في العلاقات مع الدول العربية وإيران وروسيا والصين، وصولا إلى تعزيز مكانتها الاستراتيجية في السياستين الأميركية والأوروبية، كل ذلك جعل من تركيا دولة إقليمية مؤثرة، وهو ما عزز من مكانة حزب العدالة والتنمية في عين الناخب التركي الذي بدأ ينظر باعتزاز إلى دور بلاده في الخارج.
فغالبية الأتراك توافق أو تستحسن السياسة الخارجية المتبعة من قبل حزب العدالة والتنمية، وكذلك تقدر أداء أردوغان كقائد عالمي وهذه ظاهرة جديدة في تركيا. كما أن أعدادا متزايدة من الأتراك الناخبين ترى أن سياسة الحزب في السياسة الخارجية تعبر عن سياسة وطنية تركية، بمعنى أن الحزب يعكس موقف الدولة التركية التقليدية أيضا.
كاريزما أردوغان
أما العامل الرابع والأخير وراء فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المتتالية، وجعل أي محاولة انقلاب هي فاشلة، فيعود لما يتمتع به زعيم الحزب، ورئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان من شخصية كاريزمية طاغية.
ذلك أن نسبة غير قليلة ممن يصوتون لحزب العدالة والتنمية يصوتون في الحقيقة من أجل أردوغان نفسه لا من أجل الحزب، وذلك بسبب إعجابهم بالفتى الشجاع (معنى أردوغان بالتركية) وبشخصيته القوية، ومواقفه الجريئة، وقدرته الرائعة على الخطابة وإلقاء الشعر، وهو ما يثير حماسة الأتراك ويلقى إعجابهم، وهو مالم يتوافر لأ من قادة الانقلاب المجهولين.