تتناقل وسائل الإعلام الرسمية والقريبة منها مصطلح” الإسلام السياسي” لوصف جماعات إسلامية، على سبيل التصنيف السلبي كما هو واضح، وعلى سبيل التخوين بالإيحاء بأن لها أهدافاً سياسية تمر عبر استخدام الدين في السياسة، وكأن الأنظمة بريئة من هذا!!
ولا يخفى للمتابع للواقع والتاريخ قيام أنظمة على التحالف بين المؤسسة الدينية والسياسية ثم تحول الأمر إلى توظيف المؤسسة السياسية لكل مؤسسات الدولة وعلى رأسها المؤسسة الدينية، لتدعيم الموقف السياسي للدولة، باستدعاء الدين والاستنجاد بالنصوص الشرعية وخطب المساجد لمساندة وتبرير وتسويغ لقرارات والمواقف الرسمية، كنوع من التطويع والتطبيع للعامة.
فهل الاستخدام السياسي للدين حرام أم حلال؟! أم هو على” ناس وناس”؟!
بل وحتى في الأنظمة العلمانية والاشتراكية واللادينية تجد فيها الرموز الدينية لمختلف الديانات والطوائف حاضرة وبقوة، خاصة في المواقف الكبرى والمناسبات الرسمية، ويحرص كل نظام على وجود مفتي للدولة يصدر الفتاوى على القياس المطلوب!
الفارق أن الدين لديهم يتبع السياسة، لكن السياسة عندهم لا تتبع الدين! ولا شك أن في هذا تصغير وتحقير واستخدام رخيص لا يليق بالدين! وكأن الإسلام السياسي جائز للأنظمة وحرام على غيرها! مقبول إن وظفته المولاة ومرفوض من قبل المعارضة! أو أنه مفصل على قياس الأنظمة وخادم لها!
هم يريدون الإسلام تابع لا قائد، مجرد موظف صغير لديهم يأمرونه وينهونه، لكنه لا يأمرهم ولا ينهاهم، وليس له شأن بهم ولا بقراراتهم ولا بأخلاقهم ولا ممارساتهم!
وهذه رسالة خطيرة للعامة لتنفيرهم وتخويفهم من جماعات إسلامية مزعجة للأنظمة لفهمها الشامل للدين، وتشكيكهم بها، وتوجيهم إلى الجماعات والمشايخ والرموز الدينية الرسمية أو القريبة من السلطة كبديل” مأمون”، باعتبارها جهات ممثلة للإسلام غير السياسي أو الإسلام الصحيح! مما يدفع البسطاء إلى الجماعات الموالية للسلطة، البعيدة عن الشأن السياسي- ظاهرياً!- والتي
تستهدف الفرد لا الأمة، وتدقق في التفاصيل لتضيع الكليات، وتركز على الهدي الظاهر فتهمل المعنى الشامل للإسلام، فيظل الفرد صغيراً في اهتماماته وهمومه، منعزلاً بذاته عن أمته، منشغلاً بقطع الفسيفساء الصغيرة عن إدراك الصورة الكبرى!
ولا شك أن هذا الفهم الصغير الجزئي الشخصي للإسلام مريح جداً للأنظمة، ومناسب لها، ومطاوع لسياساتها، ومتأقلم معها، ولهذا فهي تفضله وترعاه وتقدمه للناس باعتباره مرضياً عنه لديها، وهو كذلك سهل لدى البسطاء، وآمن للضعفاء الذين يخشون المواجهة، ويهربون من المسئولية عن إصلاح مجتمعهم والنهوض بأمتهم، وهم يريحون ضمائرهم بالفهم القاصر لقوله عز وجل:
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
” إنهم يريدون اسلاماً أمريكياً، إنهم يريدون الاسلام الذي يفتي في نواقض الوضوء ولكن لا يفتي في أوضاع المسلمين السياسية والاقتصادية والاجتماعية.” سيد قطب
إن الفارق الرئيسي بين الإسلام وما سبقه من الرسالات أنه دين شامل لمظاهر الحياة جميعها، وأنه المرجع العام لكافة القضايا، ولا يتحقق الإسلام حقيقة إلا بتحكيمه في كل شئون الحياة؛ بدءاً بالشأن العام والقضايا الكبرى، وانتهاء بالخاص والتفاصيل، لا العكس!
والقارئ لسيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يدرك وللوهلة الأولى أنه كان رجل دولة وسياسة، فقد بدأ بمواجهة المجتمع ومعارضة الأعراف السائدة لإبادتها، وناضل لإقناع الناس بدعوته سراً ثم جهراً، وخاطر بنفسه فهاجر من مكة ليجد أرضاً آمنه في المدينة، فيقيم دولة، ويؤسس نظاماً، ويجيش الجيوش ليحارب الأعداء، ويطرد المنافقين، ويوقع المعاهدات، ويرسل السفراء إلى دول الجوار.. فعن أي إسلام” غير سياسي” تتحدثون؟!
ليس الإسلام دين دروشة وتصوف ورهبانية وانعزال، إنه دين عملي واقعي حركي فاعل، يشمل الروحانيات وتهذيب الذات والطقوس والعبادات، لكن لا يقتصر عليها، ولا يكتفي بها، ولا يقف عندها، بل يعتبرها متطلب سابق لإصلاح الأسرة والمجتمع والأمة، لو طبقته الامة لكانت كما أرادها الله﴿ خير أمة﴾.
مقال بقلم: نوال اليحيى