الاسلام منذ ظهوره في القرن السابع الميلادي، أتت شريعته بمجموعة من المبادئ السامية لتنظيم العلاقات الدولية كمبدأ الوفاء المطلق بالعهود، وحرمة الرسل، واحترام حقوق الانسان، وتحريم الاعتداء، واحترام المبادئ الانسانية في القتال، وجاء ذلك واضحاً في القرآن في سورة الأنفال والممتحنة والنساء وغيرها، وان نظرية العلاقات الدولية تستقي مقوماتها من المبادئ والقيم التي قامت عليها الحضارة العربية الاسلامية، ولعل أهم ما يجب ان يشار اليه في صدد هذه المقومات، هو قيامها على أساس التعاون وخدمتها لجميع بني البشر.
جاء في تعريف القانون الدولي: (بأنه مجموعة القواعد التي تنظم على وجه الالزام بعض العلاقات الدولية، لابد ان يكون قديماً قدم تلك العلاقات).
ولقد اختلفت قواعد العلاقات الدولية اليوم بين المسلمين وغيرهم وأصبحت تُدار بصورة أحادية لأن هذه العلاقات تميزت بالاضطراب واهتزت معايير الاحتكام فيها، وحار المفكرون والعقلاء في شأنها، فبدلاً من ضرورة تنميتها والتزامها وتتويجها بقيم الحق، والعدل، والسلام، ونبذ سيطرة الأهواء والنزعات الخاصة، والتفسيرات الغريبة، والعصف بكل ما ورثته الانسانية، وقرره الحكماء، وأكدته التجارب العلمية، واستفادة البشر قاطبة من هدي الوحي الالهي ورسالات الأنبياء الخالدة.
وكأن الحق أصبح باطلاً، والعدل ظلماً، والاعتدال تهوراً، والسلام بطشاً وحرباً مسعورة، والاستقلال تبعية، ومقاومة المحتل ارهاباً، والعهود والمواثيق حبراً على ورق، والأخلاق والفضائل رذائل وعيوباً، والمواثيق والمفاهيم الدولية غائبة عن الوعي والحسّ والحوار الحضاري المتعدد الأنحاء أضحى صراعاً عنيفاً وتوتراً موجّهاً على يد النخب السياسية والمراقبين والمحللين.
ولم يعد هناك أي تقديس للمفهوم الديني الصحيح، وأصبحت المقدسات والمعابد مجرد مبان حجرية لا حرمة لها ولا اعتبار أو احترام لروادها الا في أذهان أتباعها، لأن العداء الديني، والتعصب الممقوت، والأحقاد السوداء طمست الحقائق كلها، وأعلن المخربون والمدمرون ودعاة الاباحية والفوضى بكل وقاحة ان هذه المقدسات لا قيمة لها في جميع الأديان، فليس لها في أنظارهم أي تقديس أو تعظيم وحماية!!.
ان علم الاجتماع السياسي يؤكد بأن كل علاقة اجتماعية وانسانية كريمة سوف يكتب لها النصر والبقاء، وهذا ما يدعونا الى صياغة واضحة للعلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم، من خلال التصورات الصحيحة والثوابت الالهية التي جاءت في جميع الشرائع.
يقول أحد الباحثين: «ان نمط العلاقات الدولية في العصر الحاضر انطلقت من فكرة العائلة أو الأسرة الدولية التي تحددت منذ مؤتمر وستفاليا سنة 1648م عقب انتهاء العصور الوسطى 1453م، وكانت مقصورة في أول الأمر على دول غرب أوروبا، ثم انضمت اليها سائر الدول الأوروبية المسيحية، ثم شملت الدول المسيحية غير الأوربية، ثم اتسعت في سنة 1856م، فشملت تركيا – الدولة الاسلامية، ودولاً أخرى غير مسيحية وانما هي بوذية كاليابان والصين، أو هندوسية كالهند».
علماء الاسلام سبقوا الغرب بثمانية قرون في العلاقات الدولية:
يقول الدكتور فايز اللهيبي: وان أول مؤلف جامع في العلم (العلاقات الدولية) يضم أحكام القانون الدولي في السلم والحرب هو كتاب (السير الكبير) للامام محمد بن الحسن الشيباني (ت عام 187 هـ 802 م)، وقد صدر في عهد هارون الرشيد، والذي اعتبرته جمعية القانون الدولي أول رائد للقانون الدولي في العالم لما جاء به في كتابه المذكور من توضيح السياسة الخارجية للدولة الاسلامية والقانون الدولي في الاسلام، وهو اعتراف بسبق المسلمين الى ذلك قبل ان يقرر ذلك في (معاهدة وستفاليا عام 1648 م، أو مؤتمر فيينا سنة 1815 م، أو معاهدة باريس سنة 1856 م، أو مؤتمر لاهاي سنة 1907 م) الذي انتهى الى قواعد دولية في حسم المنازعات بالطرق الودية، وانشاء محكمة تحكيم دولية، ونبذ الأعمال العدائية ووضع حقوق وواجبات الدول المحايدة في الحرب البرية وغيرها، بينما أول كتاب أوروبي في القانون الدولي ألفه الكاتب الهولندي (غرومشيوس) باسم (قانون الحرب والسلم) سنة 1625 م أي بعد ظهور مؤلف الامام الشيباني بأكثر من ثمانية قرون؟؟ فالشيباني أورثنا تراثاً ثرياً يعد بحق النظرية الأم في تنظيم العلاقات الدولية بين الأمم في زمن السلم وابان الحرب، ولذلك بحسبان ان الفضل للمبتدئ ولو أحسن المقتدي، فهناك من يؤكد ان الشيباني وليس غرومشيوس هو المؤسس الحقيقي لعلم التنظيم الدولي، وقد تنبه الى هذه الحقيقة فقهاء فرنسا فأنشؤوا (جمعية الشيباني للقانون للدولي) وحذا حذوهم فقهاء ألمانيا، وانتخب رئيساً للجمعية الفقيه العربي المصري د.عبدالحميد بدوي.
ما سبب ضعف العلاقات الدولية اليوم؟
يقول الشيخ صالح الحصين الرئيس العام لشؤون الحرمين:
«هناك خاصيتان أساسيتان تطبعان منهج العلاقات الدولية في الحضارة الغربية (أو اذا شئت الحضارة المعاصرة):
أولاهما: هشاشة القوة الالزامية لقواعد القانون الدولي المفروض ان تحكم العلاقات الدولية.
ثانيهما: هشاشة الأساس الأخلاقي الذي يرتكز عليه المنهج».
وكما يعبر د.هوفمان بقوله: «عوّض الغرب خسارته في الايمان بالله بايمان لا حدَّ له بالتقدم الذي جعل العالم يبدو أكثر استنارة وعقلانية… على الرغم من كوارث المائة عام الماضية بطريقة لا تصدَّق ان الايمان الأبله للغرب بالاله الجديد «التقدم» مازال سائداً.يمكن للمفكرين الغربيين ان يستنتجوا – وقليل منهم فعلوا – ان الأحداث الرهيبة للقرن «العشرين» نفت امكانية ان تعتمد الأخلاق على التقدم.تسليم الانسان للأوامر الأخلاقية الالهية – ولا شيء غير ذلك – يمكن ان يضبط الأعمال الأخلاقية للأفراد والجماعات.
والحقيقة ان أي تحليل واقعي للعلاقات الدولية لا يسعه ان يتقبل دون مناقشة دعاوى رجال السياسة المكررة في كل البلدان بأنهم محكومون بالقيم الأخلاقية.ان من الواضح ان الأخلاق كثيراً تستدعى وبأسماء مختلفة لا لشيء الا لاضفاء قدر من الاحترام على المصالح الأنانية للدولة، كما ان اللجوء الى الأخلاقية تبرير شائع مريح في يد الطرف الذي يعارض الحقوق القانونية لطرف آخر».
القواعد الانسانية في العلاقات الدولية:
جاء الاسلام بهذه المعاني الأخلاقية الكريمة وهذه القواعد الدولية التي شكلت الأسس النظرية والتطبيقية لقواعد القانون الدولي وهي مبثوثة في ثنايا آي القرآن الكريم ويمكنني ان أشير هنا بعجالة وباختصار الى أهمها وهي:-
أولاً: الكرامة الانسانية:
فالكرامة الانسانية يقررها القرآن والسنة لكل من يتحقق فيه معنى الانسانية، وذلك الأساس قائم على ركيزتين الأولى كانت بهبة العقل الذي سخر الله تعالى له به الكون بما فيه.سواء أكان على الأرض أم كان في جوف السماء قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا} البقرة 29، والركيزة الثانية هي أنه لا تفاضل بين الناس بالألوان فالأبيض والأسود على سواء الا بالتقوى قال صلى الله عليه وسلم: «أنتم بنو آدم وآدم من تراب» سنن أبي داود.
ثانياً: التعاون الانساني:
ولقد نفذ الرسول صلى الله عليه وسلم مبدأ التعاون الدولي عندما جاء الى المدينة فعقد مع اليهود حلفاً أساسه التعاون على البر، وحماية الفضيلة ومنع الأذى، وأكد ذلك بالمواثيق، ولكن اليهود نقضوا حلف التعاون، ودبروا الأمر مع المشركين ضد النبي صلى الله عليه وسلم وكان أساس هذا التعاون ان يتضافروا على دفع الاعتداء واقامة الحق أو بعبارة عامة ما يسمى في هذا العصر «بالتعايش السلمي».
وقد حضر وهو شاب في الخامسة والعشرين من عمره حلفاً لبعض أشراف قريش عقد في دار عبدالله بن جدعان تعاقدوا فيه لينصرن الضعيف على القوي، فسر صلى الله عليه وسلم لذلك سروراً ظهرت آثاره من بعد فقد قال الهادي الأمين: «لَقَدْ شَهِدْتُ في دَارِ عبدالله بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ ان لِى بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوِ أُدْعَى بِهِ في الاسْلاَمِ لأَجَبْتُ» السنن الكبرى للبيهقي.
ثالثاً: الناس جميعاً أمة واحدة
اعتبر الاسلام الناس جميعا أمة واحدة ولقد صرح القرآن بهذه الوحدة في آيات كثيرة، وما دام الأصل واحداً فالوحدة شاملة، وقد جاء ذلك في عدة سور وعدة آيات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ ان اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} النساء 1، تصرح بأن الأصل واحد، فقد خلق الله الناس جميعاً من نفس واحد وخلق من هذه النفس زوجها، وتوالد الناس من هذين الأبوين الكريمين.
وان اختلاف الناس شعوباً وقبائل لم يكن ليتقاتلوا ويختلفوا ولكن ليتعارفوا ويتعاونوا، وقد صرحت بذلك الآية الكريمة في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ انَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} الحجرات 13، وان هذا التعارف يجعل كل فريق ينتفع بخير ما عند الفريق الآخر.
وفي سبيل ذلك التعارف حث القرآن الكريم على السعي والضرب في الأرض طلباً للرزق وطلباً لهذا التعارف الانساني، وليحصل أهل كل اقليم على ما عند الآخرين.
وكما ان الاسلام حارب فكرة التمييز بالألوان، وحارب التمييز بالعنصر والجنس فالناس جميعاً لآدم، لا فرق بين آري وحامي وسامي بل الجميع ينتمون الى أب واحد وأم واحدة.
رابعاً: التسامح:
وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ التسامح في علاقاته بالمشركين وغيرهم في معاهداته وفي حروبه، ففي المعاهدات تراه في صلح الحديبية، وهو الصلح الذي عقد بينه وبين المشركين عندما أراد ان يحج فمنعوه وأبوا ان يدخل البيت الحرام، وقد كان أساس هذا الصلح شططاً من جانب المشركين، وسماحة من جانب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أصروا في صلحهم على ان يمنعوه من الحج في عامه هذا فقبل هذا الشرط ومعه جيش يستطيع به ان يدك عليهم ديارهم، واشترطوا مع ذلك ان من يخرج من مكة مسلماً ملتحقاً بالنبي والمؤمنين يرد اليهم ان لم يكن ذلك برضا أهله، وأن من يخرج من عند محمد مرتداً الى مكة يقبلونه ولا يمنعونه، فقبل النبي السمح الكريم ذلك الشرط، حتى ضج بعض المؤمنين من قبوله، ووقف عمر بن الخطاب يهز سيفه، ويقول: «لماذا نرضى بالدنية في ديننا» ولكنها الحكمة النبوية، والرسالة المحمدية آثرت الصبر والسماحة وحقن الدماء ولم يكن ذلك قبولاً للدنية ولكنه الهدي الاسلامي الذي حث على الصبر بدل القتل والقتال، والرفق بدل العنف، وتأجيلٌ فيه رفق خير من تعجيلٍ فيه عنف.
وبذلك يتبين ان التسامح والصفح الجميل هو السياسة الاسلامية التي رسمتها النبوة في العلاقة بين الناس بعضهم مع البعض، وخصوصاً بين المسلمين وغيرهم، وهي السياسة المطلقة في حال السلم، والسياسة الشافية للقلوب المجروحة في أعقاب الحروب، لأن المغلوب المجروح يجب ان يرقأ جرحه بدل ان ينكأ قرحه.
خامساً: الحرية:
جاء الاسلام بمفهوم جديد للحرية وهو ان الحرية الحقيقية تبتدئ بتحرير النفس من سيطرة الأهواء والشهوات، ولذلك دعا الاسلام الى تحرير النفوس من هذه السيطرة، وندد بالذين يتبعون أهواءهم، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ الَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} الجاثية 23.
وان الاسلام عمل على حماية عقيدة الذين يستظلون بظله، أو يعقدون معه عهداً أو لا يثيرون عليه حرباً، بل انه سهل لهم القيام بشعائر دينهم، وقد قرر فقهاء المسلمين فيما استنبطوه من نصوص قرآنية ونبوية، ومن أعمال الرسول وصحابته قاعدة تقول: «أمرنا بتركهم وما يدينون» وبهذه القاعدة المجمع عليها من فقهاء المسلمين حميت حرية العقيدة في ظل الاسلام، فلا يضار غير المسلم فيما يعتقد، ويقيم شعائره الدينية حراً غير مضطرب ومثال ذلك العقد الذين كتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع نصارى الشام.
وان تقرير المصير كان يثبت حتى في الميدان وبعد النصر، يروى ان قتيبة بن مسلم الباهلي فتح بعض أقاليم سمرقند من غير ان يخيرهم بين الاسلام أو العهد أو القتال، فشكا أهل هذا الاقليم الى الحاكم العادل الذي نهج منهاج الراشدين عمر بن عبدالعزيز ان قتيبة قاتلهم قبل ان يخيرهم ذلك التخيير ليقرروا مصيرهم، فأرسل الخليفة الى القاضي ليستمع الى هذه الشكوى ويحققها، فتبين له صدقها، فأصدر أمره الى جند المسلمين بأن يخرجوا من البلد الذي فتحوه، ويعودوا الى ثكناتهم، ثم خيَّر أولئك بين هذه الأمور الثلاثة ليقرروا مصيرهم، فاختاروا العهد ومنهم من اختار الاسلام الذي سمح بذلك التخيير بعد الفتح والانتصار.
ولقد دفع ذلك (جوستاف لوبون) بأن قال ان التاريخ لم يعرف فاتحاً أرحم من العرب.
المعاملة بالمثل:
واذا كان القرآن قد أقر رد الاعتداء بمثله، قال تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا ان اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} البقرة 194، فاذا انتهك العدو حرمات الفضيلة فلا تنتهك، فاذا كان العدو ينتهك حرمة النساء لا نفعل ذلك، واذا كان يقتل النساء والذرية الضعاف لا نقتلهم، واذا كان يجيع الأسرى ويظمئهم حتى يموتوا جوعاً لا نفعل ذلك، واذا كان العدو يمثل بالقتلى ويشوه أجسامهم بعد قتلهم ويفعل ذلك في قتل المسلمين فلا نجاريه في ذلك، وقد حدث ان المشركين في غزوة أحد قد مثلوا بجثة سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه عم النبي وأحب ذوي قرباه اليه فلما ظفر بهم لم يمثل بأحد من قتلاهم، وقد نهى نهياً عاما عن المُثلة، فعن عبدالله بن زيد رضي الله عنه قال «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النُّهْبَى، والمُثْلَة« رواه البخاري.
وقد قال صلى الله عليه وسلم في بعض وصاياه لجيوشه: «اغزوا باسم الله في سبيل الله وقاتلوا من كفر بالله، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تنفروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً» رواه مسلم.
ويوصي صلى الله عليه وسلم بألا يقتل الأسير، فيقول: «لا يعترض أحدكم أسير أخيه فيقتله».
لا يصلح العالم الا اذا كانت العدالة ميزان العلاقات الانسانية في كل أحوالها، فلا يبغي قوي على ضعيف، ولا يضيع حق، لأن الأوضاع الظالمة ألفته، حتى صرنا نرى العلاقات الدولية تقوم على مجموعات من الظلم متكافئة يحابي الأقوياء بعضهم بعضاً باقرارها ليسكت كل فريق عن ظلم الآخر للضعفاء؟؟ وهذا كله تحت طائلة القانون الدولي ومجلس الأمن؟؟.
وان العدالة لا تنافي الرحمة، بل انها تلازمها، فحيث كانت العدالة كانت الرحمة، ولا يمكن ان تكون رحمة حقيقية مناقضة للعدالة الحقيقية، وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم أرحم الناس، وأكثر الناس سماحة في المعاملة، مع أنه كان عدلاً بكل ما تشمله هذه الكلمة من معان.ذكرت عائشة زوجه أخلاقه فقالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادما له قط ولا امرأة له قط ولا ضرب بيده الا ان يجاهد في سبيل الله وما نيل منه شيء فانتقمه من صاحبه الا ان تنتهك محارم الله عز وجل فينتقم لله عز وجل «مسند أحمد»، فأين هذا الأدب النبوي اليوم من دعاتنا؟.
وهذه أخلاق الرحماء حقاً وصدقا، يتسامحون في حقوق أنفسهم التي لا يترتب على التسامح فيها نصرة للباطل، ولا هضم لحق غيرهم، ولعل هذا يفسر لنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا نبي المرحمة، وأنا نبي الملحمة» فالملحمة والمرحمة متلاقيتان في نفسه، كما تتلاقيان في كل حاكم عادل يسوس الناس بالقسطاس المستقيم وان أخذ المبطلين من أنوفهم ليحملوا على الطريق السوي من قوانين الرحمة.
وانه في حال المعاملة بالمثل عند الاعتداء يكون رد الاعتداء بالقدر الضروري لرده، فلا يتجاوز المحارب المسلم حدود الدفاع، فلا يقتل من لا يقاتل ولا يكون له رأي في الحروب، لا يقتل الذرية ولا الشيوخ، ولا العمال المنصرفين للزراعة ونحوها مما يحتاج اليه الناس لأن هؤلاء لا يحاربون ولا يباح دم أحد الا من يكون في الميدان.
وان السبيل لاستقرار السلام هو معاهدات الأمان وعدم الاعتداء، وان المعاهدات لا تستمد قوتها من نصوصها، بل من عزيمة عاقديها على الوفاء، ولذلك حث القرآن على الوفاء، واعتبر الوفاء بالعهد والميثاق قوة، والنكث فيه أخذاً بأسباب الضعف قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ الا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ان اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} المائدة 1.
وانه اذا كان القرآن يدعو المؤمنين الى تقوية العهود وتنفيذها، والقاء الأمن بين الناس بها، فان النبي صلى الله عليه وسلم وهو مبلغ رسالة القرآن قد حث في طائفة كثيرة من الأحاديث المروية عنه على الوفاء بالعهود عامة، وعلى الوفاء بالعهود التي يعقدها رؤساء الأمم في تنظيم العلاقات الدولية خاصة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «أنا أحق من وفي بذمته» سنن الدارقطني. وقد عقد المشركون مع النبي صلى الله عليه وسلم عهداً على ألا يقاتلوهم وأن يوادعوهم مدة من الزمان، فذكر له بعض المسلمين أنهم على نية الغدر به، وعلى أهبة ان يقاتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم: «وفوا لهم ونستعين بالله عليهم» معجم الصحابة لأبي القاسم البغوي، وكان ينهى عن الغدر بمقدار حثه على الوفاء، وكان يعتبر أعظم الغدر غدر الحكام، فهو يقول: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ أَلاَ وَلاَ غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرًا مِنْ أَمِير عَام» وذلك لأن غدر المتولي أمر الأمة يؤدي الى عدم الثقة بها.
من ذلك قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ان تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا الَيْهِمْ ان اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * انَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى اخْرَاجِكُمْ ان تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الممتحنة 8 – 9.
ولعل اختلاف المفاهيم اليوم هو الذي أورثنا هذا الاختلاف في المواقف والضعف في القوة والخور في اتخاذ القرار!! فأصبحنا في العلاقات الدولية مُسيّرين ولسنا مُخيّرين؟.
د.عبدالرحمن الجيران
Dr***********@ya***.com