خاض الكاتب الأميركي “جون فرانسيس” أحد مناصري قضايا البيئة تجربة فريدة وغريبة من نوعها، إذ امتنع عن الكلام والتزم الصمت تمامًا لمدة 17 عامًا.
الكاتب الذي ولد في أميركا ويلقب بـ “السائر في الكوكب” نشر تجربته في صحيفة “الغارديان” البريطانية، مشيرًا إلى أنه توقف عن الكلام بعد عيد ميلاده السابع والعشرين عام 1973.
واكتشف مع بداية التجربة أنه أصبح يجيد الإنصات للآخرين حتى أصبح يحب الصمت لأنه يمنحه ما وصفه بـ “السلام”، كما حصل خلال تلك الفترة على شهادة الدكتوراه.
نص المقال:
توقَّفت عن الكلام في عيد ميلادي السابع والعشرين في عام 1973؛ إذ وجدت نفسي أجادل طوال الوقت.
بعد أن شهدت حادثة تسرب النفط في خليج سان فرانسيسكو في عام 1971، تخلَّيت عن استخدام المركبات الآلية، وبدأت الاعتماد على المشي فقط حيثما ذهبت، لأوصل رسالة إلى الناس بشأن التلوث.
كنت أعيش في قرية صغيرة على الساحل الغربي الأميركي، حيث ظللت أنخرط في نقاشات حول ما إذا كان شخص واحد يُمكن أن يُحدث فرقًا؛ كنت أغضب وأثير الصخب حول واجب الجميع في أن يفعلوا ما كنت أفعله.
استخدمت الكلمات للاختباء من الآخرين، ومن نفسي. وكنت أختلق أمورًا: إذا قال لي أحدهم إنه ذاهب في رحلة إلى أوروبا، كنت أدَّعي أنني ذاهب أيضًا؛ أعتقد بأني لم يكُن لديَّ الكثير من الكبرياء.
قررت الامتناع عن الكلام لمدة يوم واحد، كنوع من الهدية لمن حولي. رأت صديقتي أن ما فعلته أمر جميل. وعندما استيقظت في اليوم التالي، لم أكن أرى أي سبب للكلام، لذا لم أتكلَّم.
عندما كان الناس يوجهون حديثهم إليَّ، كنت أشير إلى أنَّني ملتزمٌ بالصمت. وكانوا يشعرون بسعادة غامرة.
في الأسبوع الأول، اعتقد الجميع بأن الأمر مضحك، وأدركت أني أنصت حقًا إلى الآخرين عكس ما اعتدت؛ فقد كنت دائمًا أفكر فيما سأقوله بعدما يُنهي الشخص الذي أمامي حديثه دون أن أُنصت حقاً لما يقول.
بعد بضعة أسابيع، بدأ الناس يشعرون بالقلق. أرادت صديقتي أن أتوقف عمَّا أفعله. بعثت برسالة إلى والديَّ في فيلادلفيا، وقالت لهم إنني لم أتكلم منذ ثلاثة أسابيع، وإنني أفكر في التزام الصمت لمدة عام. استقلَّ أبي أول طائرة إلى فيلادلفيا. كانوا يعتقدون بأن إحدى الطوائف الدينية في كاليفورنيا قد اجتذبتني.
وعندما وصل أبي، طلب مني أن أركب السيارة وأذهب معه إلى الفندق الذي يقيم فيه، فهززت رأسي وامتثلت. وعندما وصلنا إلى غرفته في الفندق قال: “حسنًا، يمكنك التحدث الآن”. وجنَّ جنونه حين لم أنبس ببنت شفة. واستمرَّ هذا لأعوام.
لقد أحببت التزام الصمت؛ فقد كان يمنحني سلامًا. يسألني الناس إن كنت أُكلم نفسي، لكن لِمَ أفعل ذلك؟ لِمَ قد أشتكي وأنا من اتخذت هذا القرار ولا ألوم أحداً إلا نفسي.
تكلَّمت عدة مرات بالخطأ. بعد حوالي ستة أشهر، اصطدمت بشخص في محل بقالة، فقلت: “عفوًا”. حتى ضحكي كان صامتًا تمامًا، وهو ما وجده أصدقائي أغرب ما في الأمر.
تفَّهمت صديقتي السبب في قراري في نهاية المطاف، ولكن عندما قررت أن أسير من كاليفورنيا إلى أوريغون لاستكشاف الحياة البرية، افترقنا وذهب كل منا في طريقه.
وفي الذكرى السنوية العاشرة لامتناعي عن الكلام، تحدثت ليوم واحد. لم أكن أريد أن يبدو الأمر وكأنه ليس خيارًا اتخذته.
كنت في كاليفورنيا واتصلت بوالديَّ. ردَّت أمي على الهاتف وظنَّت أن أخي يعبث معها. كان عليَّ إثبات أن المتصل هو أنا بأن أقول شيئاً أعرفه أنا وهي فقط؛ فذكَّرتها بما قالته لي حين ذهبت لأقابلها هي وأبي في سان فرانسيسكو مشيًا على قدميَّ، وعندما كنا في المصعد قالت: “إذا كنت جادًا حقًا في أمر المشي على قدميك هذا، فإنك لن تركب المصعد”.
وفي هذه الأثناء، حصلت على درجات البكالوريوس، والماجستير، والدكتوراه في الدراسات البيئية. تعلَّمت بعضًا من لغة الإشارة حتى يمكنني التواصل مع الآخرين، ومشيت في جميع أنحاء الولايات المتحدة، وعزفت آلة “البانجو”، وأصبحتُ أُعرف باسم Planetwalker (السائر في الكوكب).
وبعد 17 عامًا من الامتناع عن الكلام، أشعر بأنَّ لديَّ ما أود قوله. جاء الناس للاستماع إليَّ في أحد الفنادق في واشنطن العاصمة. كانت كلماتي الأولى: “شكراً لكم لأنكم هنا”.
لكنني لم أتعرَّف على صوتي، وبدأت أضحك. رأيت والدي يجلس بين الجمهور، وينظر إليَّ وكأنَّه يقول: “أجل، إنه مجنون حقًا”. بعد أن استمعت إلى الآلاف من الناس، أدركت كم هي ضيقة رؤيتنا للبيئة.
معنى البيئة يتجاوز إنقاذ الأشجار، ما تعنيه حقاً هو كيف نعامل بعضنا البعض، وهذا يشمل المساواة بين الجنسين، والمساواة الاقتصادية، والحقوق المدنية.
قابلت زوجتي بعد أن بدأت أتكلَّم مرةً أخرى، وبسبب تركيز رسالة الدكتوراه الخاصة بي على قضية التسربات النفطية، عيَّنتني قوات خفر السواحل الأميركية بعد كارثة إكسون فالديز.
في الوقت الحالي، أُدرِّس في المدارس وأُلقي محاضرات حول العالم. بدأت باستخدام السيارات مرة أخرى في عام 1995، بعد 22 عامًا، عندما أدركت أن المشي قد أصبح كالسجن بالنسبة لي حين كنت أسير من فنزويلا إلى البرازيل.
ما زلت أمارس الامتناع عن الكلام كل صباح، وأحيانًا لا أتكلم لعدة أيام متصلة. وهذا يذكرني بضرورة الإنصات، دون الحكم على ما أظن أني أسمعه، بل أن أفهم حقاً ما يقوله الناس.