كثيرون يعرفون ألكسندر غريبويدوف شاعرا وكاتبا مسرحيا روسيا كبيرا، ولكن الأقلاء يعرفون أنه كان دبلوماسيا من الطراز الأول.
وكان أول منصب شغله هو سكرتير الشؤون الدبلوماسية لدى الجنرال أليكسي يرمولوف قائد القوات الروسية في القوقاز، حيث تعلم اللغتين الفارسية والعربية، وربما لذلك جرى تكليفه عام 1827 بشؤون تركيا وفارس. وبعد انتصار الإمبراطورية الروسية المدوي في الحرب الروسية-الفارسية (1826-1828)، قام غريبوييدوف بوضع اتفاق سلمي (بالفارسية “عهدنامه ترکمانچاي”) بين الإمبراطورية الروسية والدولة القاجارية، والذي وقعه ولي العهد الأمير عباس ميرزا والجنرال إيفان باسكيفيتش في بلدة “تركمان تشاي” قرب تبريز، في 11 فبراير من عام 1828. وبعد شهرين من وضعه الاتفاق، تم تعيين غريبوييدوف وزيرا مقيما (سفيرا) في بلاد فارس، وقد علق غريبوييدوف على تعيينه بأنه يُرسل إلى هناك لكي يكون “طريدة للافتراس”.
ولعل سبب إرساله دبلوماسيا إلى بلاد فارس كان مقته التزلف إلى رؤسائه للحصول على مكان عمل أفضل، كما جاء على لسان أحد أبطال مسرحيته الكوميدية الشعرية “ذو العقل يشقى”: “العمل يرضيني، ولكن المداهنة تثير اشمئزازي!”
وكانت مهمة غريبوييدوف الأساس في فارس تتمثل في الحصول من الشاهنشاه الشكلي في طهران فتح علي شاه ومن الحاكم الفعلي للبلاد المقيم في تبريز الأمير عباس ميرزا على التعويضات، التي فُرضت على الدولة القاجارية بحصيلة الحرب. لكن الصعوبات كانت في انتظار غريبوييدوف في مكان عمله الجديد. إذ على الرغم من أن بلاد فارس كلها كانت تشارك في سداد ثمن الهزيمة النكراء، فإن الفرس، الذين وضعتهم الحرب على حافة الإفلاس، كانوا يجدون صعوبة في سداد الإتاوة، التي فرضها الروس عليهم، الأمر الذي زاد من استياء المجتمع الفارسي. ومن ناحية أخرى، كان أرمينيو فارس يجدون، منذ مطلع عام 1829، في السفارة الروسية ملجأ لهم. وعلى الرغم من الخطر، الذي كان يسببه ذلك للسفارة والسفير، فقد كان غريبوييدوف يؤويهم. وكان من بين الملتجئين إلى مقر الدبلوماسية الروسية في طهران امرأتان أرمينيتان من “حريم” أحد أقارب الشاه، وخصي أرميني من “حريمه”. وقد طلب هؤلاء من غريبوييدوف إعادتهم إلى وطنهم، الذي أصبح جزءا من الإمبراطورية الروسية في ذلك الحين. بيد أن إيواء الأرمينيات في السفارة الروسية أثار سخط متعصبي طهران الدينيين، الذين عدّوا ذلك “تهتكا”، فشنوا حملات دعاية معادية للروس في البازارات والمساجد؛ وأعلنوا “الجهاد” ضد غريبوييدوف “الكافر ذي النظارات”. كما أجج العداء للسفير الروسي بين أفراد حاشية الشاه الدبلوماسيون الإنجليز، الذين لم يرقهم تعزيز روسيا مواقعها في وسط وجنوب آسيا. وهكذا، وفي يوم مشؤوم من أيام شهر فبراير من عام 1829، احتشد أمام السفارة مئة ألف من أبناء طهران، وكان على رأسهم رجال الشاه. وسرعان ما فقد مدبرو المؤامرة السيطرة على الجماهير، التي اغتنمت الفرصة، وأقدمت على قتل غريبوييدوف مع 35 قوزاقيا، كانوا يحرسون السفارة. وقد أثارت المذبحة أزمة دبلوماسية حادة بين البلدين؛ ولتطبيع العلاقات مع روسيا، أرسل الشاه حفيده الأمير خسرو ميرزا إلى سان بطرسبورغ. وكانت مهمته تتلخص في التوصل إلى قبول الإمبراطور الروسي اعتذار الشاه عن قتل غريبوييدوف، وإلى تخفيف عبء تعويضات الحرب عن كاهل الفرس. وكان من بين الهدايا التي حملها خسرو ميرزا إلى الإمبراطور الروسي نيقولاي الأول، حجر ألماس خرافي، يعرف باسم “الشاه”، ويبلغ حجمه نحو 90 قيراطا ووزنه نحو 18 غراما وطوله نحو 3 سنتيمترات. وفي حصيلة الأمر، لم تؤد مجزرة السفارة إلى تدهور العلاقات بين روسيا وبلاد فارس، وتم تأجيل دفع التعويضات خمس سنوات. وقال نيقولاي الأول لخسرو ميرزا وهو يتسلم منه الهدايا وحجر الألماس إنه “سيجعل حادثة السفارة المأسوية طي النسيان.” يجب القول إن هذا الحجر الكريم ما زال موجودا ويمكن رؤيته في متحف الكرملين. أما غريبوييدوف فيرقد بسلام في عاصمة جورجيا تبليسي (“تيفليس” سابقا) مع زوجته الجورجية الأميرة نينو تشافتشافادزه. ولعله لذلك نجا ضريح الأديب الروسي من استغلاله موضوعا لمزايدات الساسة الجورجيين مع الكرملين بعد تفكك الاتحاد السوفياتي.
سبوتنيك