بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 تخلت دول لديها اقتصاد صناعي منتج وقطاع خاص إنتاجي عن السياسات الاقتصادية النيوليبرالية المتوحشة (الخصخصة الشاملة والسوق المنفلتة بلا ضوابط، وإلغاء شبكة الضمان الاجتماعي، وتحرير الأسعار، وتحويل الدولة إلى مجرد حارس أمين على الملكية الخاصة)، التي روّج ويُروّج لها صندوق النقد الدولي؛ لهذا فمن المستغرب أن تتجه الحكومة إلى تنفيذ ما يُسمى “روشتة” صندوق النقد الدولي، وهي سياسة اقتصادية نيوليبرالية نتائجها كارثية اجتماعيا وسياسيا، إذ إنها تؤدي إلى غياب العدالة الاجتماعية، حيث تتركز الثروة في أيدي القلة في مقابل إفقار غالبية الشعب (أي محو ما يُسمى الطبقة الوسطى وزيادة إفقار الفقراء)، وهو ما أثبتته الأيام في كل من مصر وتونس واليونان وإسبانيا مثالا لا حصرا.
قبيل الثورة التونسية عام 2011، على سبيل المثال، كانت تقارير صندوق النقد الدولي تُطلق على الوضع الاقتصادي في تونس “المعجزة الاقتصادية التونسية” لوجود بيانات إحصائية تشير إلى نمو اقتصادي، لكنه، في الواقع، كان نموا مُضرا ومشوّها تجني ثماره القلة القليلة في مركز اتخاذ القرار وحوله، في حين كانت غالبية الشعب التونسي تعاني معاناة في غاية القسوة رأيناها مجسّدة أمامنا في حالة الشاب الراحل “البوعزيزي” الذي انتحر محترقا نتيجة الظلم الاجتماعي والبؤس والفقر المدقع، وارتفاع الأسعار وتردي مستوى المعيشة، إذ كانت معدلات المُعطّلين (البطالة) ترتفع بشكل قياسي عاما بعد آخر.
توصيات صندوق النقد الدولي التي تنوي الحكومة تطبيقها تتضمن فيما تتضمن الخصخصة وإلغاء الدعم الاجتماعي تدريجيا وزيادة الرسوم أو فرض رسوم جديدة، (مادة 24 من الدستور تنص على أن العدالة الاجتماعية أساس الضرائب والتكاليف العامة)، وهي توصيات، إن نُفذت، فسيترتب عليها بكل تأكيد آثار سيئة اجتماعيا وسياسيا، حيث ستؤدي إلى انخفاض مستوى معيشة الفئات الوسطى والشعبية، وهو الأمر الذي اتضح جليا عند إلغاء دعم الديزل والكيروسين وارتفاع الأسعار قبل أيام معدودة، مما أثار غضب واستياء قطاع واسع من المواطنين.
ومما سيزيد الطين بلة أن الحكومة تتجه أيضا إلى خصخصة الجمعيات التعاونية في الوقت الذي يُطرح القطاع التعاوني في العالم كبديل ناجح للسياسات النيوليبرالية المتوحشة، فضلا عن أن الدستور ينص على تشجيع الدولة للتعاون.
التوجه الحكومي الذي أُعلن عنه قبل مدة هو خصخصة الجمعيات التعاونية سواء الاستهلاكية (55 جمعية) أو الإنتاجية الزراعية (4 جمعيات) والتي تعتبر ملكية اجتماعية، وذلك عن طريق تحويلها إلى شركات مساهمة يدخل في ملكيتها القطاع الخاص الذي من المؤكد أنه سيسيطر عليها في النهاية، كما هو الوضع حاليا في الشركات المساهمة، ثم يوجهها من أجل تعظيم أرباحه، ولا سيما أن الجمعيات التعاونية الاستهلاكية لديها مئات المنافذ الخاصة بالبيع والتسويق، والتي تعتبر فرصة ذهبية لا تقدر بثمن بالنسبة إلى أي شركة خاصة.
خصخصة الجمعيات التعاونية تُطرح تحت ذريعة واهية هي وجود فساد في إدارة عدد من الجمعيات، إذ من الممكن لو توافرت الإرادة السياسية إصلاح إدراة الجمعيات التي تعاني الفساد الإداري والمالي، ثم أليس الفساد الذي تعانيه بعض الجمعيات التعاونية مستشريا، مع الأسف الشديد، في جميع مفاصل الدولة؟! أضف إلى ذلك أن القطاع الخاص أيضا لا يخلو من الفساد والصراعات المصلحية التي ستكون نتائجهما كارثية على المجتمع لو تمت خصخصة الجمعيات التعاونية، وخير دليل على أن الفساد من الممكن أن يصيب القطاع الخاص أيضا هو واقع كثير من الشركات الاستثمارية والمالية الذي انكشف بشكل فاضح بعد الأزمة المالية العالمية، علاوة على ما يجري حاليا في سوق الأوراق المالية “البورصة”.