وصف الباحث التركي سيموهي سنان أوغلو من خلال ما كتب في المجلة الثقافية “بيريكيم” كيف أن مثل هذا المسلسل التلفزيوني يعمل كنوع من “التقنية السياسية” لتأمين الشرعية للنظام السياسي الحالي.
يتناول مسلسل تركي تاريخي، أمجاد الدولة العثمانية، في محاولة لحشد التأييد لمساعي الرئيس رجب طيب أردوغان لإعادة “الهيبة التركية” و”الانتصار للأمة التركية”، التي تمثلت مؤخرًا باستفتاء شعبي زاد من صلاحيات الرئيس وغير نظام الحكم في البلاد من برلماني لرئاسي.
ووصف مسلسل “قيامة أرطغرل” على مدى ثلاثة مواسم للآن الحملات التي شنها الأتراك في القرون الوسطى ضد الأعداء المسيحيين. ويملك المسلسل الذي يركز على حياة أرطغرل بك والد عثمان بك مؤسس الإمبراطورية العثمانية في القرن الثالث عشر، أعلى نسب المشاهدة في تركيا أسبوعيًا. أما شعار المسلسل فهو “صحوة أمة”.
وهذا ينسجم مع الأحداث الجارية، بعد أن نسّق أردوغان لاستفتاء دستوري في شهر نيسان/ أبريل كنزاعٍ ضد “أعداء الأمة التركية والخونة المحليين” على حد وصفه.
وغالبًا ما يمكن قياس المزاج الوطني في تركيا بشعبية بعض البرامج التلفزيونية. فقبل سنوات قليلة كان مسلسل “القرن العظيم/ The great century” المكتوب استنادًا لحياة السلطان سليمان الذي قاد الإمبراطورية العثمانية في ذروة قوتها في القرن السادس عشر، ويعد رمزًا لازدياد الثقة بالنفس.
ووفق وصف صحيفة “نيويورك تايمز” تميز بترف وبذخ ودساسة الحكم العثمانية، وأصبح بعد ذلك من أنجح المسلسلات عالميًا.
ومنذ تولى حزب العدالة والتنمية السلطة في عام 2002، أصبحت المسلسلات التلفزيونية أبرز صادرات تركيا ، وتم بيع ما يقارب 150 مسلسلًا تلفزيونيًا تركيًا إلى أكثر من 100 دولة في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية وجنوب آسيا.
ويعتقد أن الصادرات السنوية قد تجاوزت 300 مليون دولار في العام الماضي. ومن الشائع أن نرى مجموعات من السياح العرب أو الإيرانيين في إسطنبول يزورون المواقع المغرية التي شاهدوها على الشاشة.
ولكن ” قيامة أرطغرل” يستهدف بشكل مباشر الجمهور المحلي، حيث يبث على شبكة “TRT 1” التي تديرها الدولة، والمشاعر التي يبثها هي مشاعر قومية، وتضرب الوتر في بلد أصيب بالجراح بعد محاولة الانقلاب العسكري في حزيران/ يوليو الماضي.
وشهد الموسم الأول حملة تركية ضد الصليبيين في الأناضول، وكانت معارك الموسم الثاني موجهة ضد المغول، كما كانت الحرب في الموسم الثالث مع البيزنطيين المسيحيين.
وفي حين أن نهج المسلسل الذي يفتقد للدقة التاريخية أقل أهمية من الطريقة التي يعكس بها المزاج السياسي. ويظهر العرضُ القومية الإسلامية التي عبّر عنها الرئيس أردوغان خلال خطاباته في الاستفتاء، واضعًا وصف الـ”صراع بين الهلال والصليب”.
وتملك المسلسلات التلفزيونية أهمية كبيرة في الثقافة التركية. حيث أفاد معهد الإحصاء التركي في عام 2015 أن 94.6% من الأتراك يقولون إن مشاهدة التلفزيون هو النشاط المفضل لديهم.
وذكر المجلس الأعلى للراديو والتلفزيون أن المواطنين الأتراك يشاهدون في المتوسط 5.5 ساعة يوميًا ما يجعلهم أكبر مستهلكي العروض التلفزيونية في العالم، وغالبًا ما تعكس المسلسلات المناخ السياسي.
ومنذ محاولة الانقلاب في العام الماضي، وفي خضم العمليات العسكرية ضد تنظيم “داعش” وحزب العمال الكردستاني أصبحت المسلسلات التلفزيونية تضم الجنود ونشطاء المخابرات الذين يقاتلون الأعداء في الداخل والخارج.
إلى ذلك، فإن ” قيامة أرطغرل ” متورط في الثقافة التركية المُرّة للحرب بين المحافظين الدينيين والنخبة الثقافية ذات العقلية العلمانية، وقد سخر المقدم، من المسلسل، في حفل توزيع جوائز تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، ولم يتم السماح لطاقم وفريق المسلسل بالتحدث على المسرح حين تسلموا جوائزهم.
ثم أصر كاتب النص على إرجاع جائزته إلى أن تدخل الرئيس أردوغان بنفسه في الأمر. وقام بمدح مسلسل “قيامة أرطغرل” على أنه صوت الجموع المحافظة. حيث قال: “إلى أن تبدأ الأسود بكتابة قصصها الخاصة، فإن صياديها سيكونون دائمًا الأبطال”.
ولا تعكس شهرة المسلسل بالضرورة صعود أدعياء “الأسلمة” تحت حكم أردوغان. بل إنه يقترب أكثر من تصوير الطموح العميق لتحقيق المكانة والتأكيد الوطني ضد الأعداء.
وتعبر المسلسلات من أمثال “قيامة أرطغرل” عن فكرة أن لدى تركيا مهمة فريدة كوارثة لإمبراطورية عظيمة، الأمّة التي أُسست من قبل رجال ذوي نفوذ واسع. وفي إحدى مشاهد المسلسل تتحدث واحدة من الشخصيات حول نوع الإمبراطورية المثلى التي سوف ينشئونها، كيف يكافئون المواهب، والذكاء والبراعة العسكرية.
ووصف الباحث التركي سيموهي سنان أوغلو من خلال ما كتب في المجلة الثقافية “بيريكيم” كيف أن مثل هذا المسلسل التلفزيوني يعمل كنوع من “التقنية السياسية” لتأمين الشرعية للنظام السياسي الحالي. فوفقًا لهذه المسلسلات فإن “أسماء أعداء تركيا قد تتغير، إلا أن أثرهم باقٍ كما هو منذ ما قبل إنشاء الإمبراطورية العثمانية”.
وحسبما أضاف سنان أوغلو: “يهدف هؤلاء الأعداء إلى تقسيم وتدمير الدولة”. ولديهم دائمًا “امتدادات محلية” على هيئة مواطنين عالميين على اتصال وثيق ومستعدين لارتكاب الخيانة من أجل مكاسب شخصية. إنها رسالة قوية تغذي ثقافة نظرية المؤامرة في تركيا.
وتعكس شهرة مثل هذه الأعمال الدرامية رغبات مشاهديها في الهرب إلى عالم الخيال الأكثر راحة من الواقع الفوضوي لتركيا اليوم. في دولة تتجاذبها الأقطاب بقوة وتكافح لرفع اقتصادها وتعاني من الحرب على حدودها مع سوريا، فيعمل مسلسل “قيامة أرطغرل” على راحة المشاهدين من خلال النقر على وتر الأسطورة التأسيسية للمجد التركي.
هذه الأمور تعتبر من أساسيات تلميع الرئيس أردوغان لصورته الشعبية. حيث عمل لسنوات على بناء مشاريع ضخمة أعادت تشكيل تركيا كجزء من الكفاح ضد القوى الأجنبية التي “تغار من تركيا” والتي تحاول أن “تعرقل نهوض تركيا”.
وتطورت جماعة قائمة على شخصية أردوغان حيث يُنظر إليه على أنه محور وممثل “الإرادة الوطنية”. فيما يخبر أردوغان الموالين في التجمعات العلنية بأن تركيا تنفذ قدرها المقدس تحت حكمه، وتعود لدورها التاريخي كقائد للمنطقة وقوة عالمية.
ويمثل ذلك منطقًا، بالنسبة للعديد من المصوتين العاديين الذين يتمتعون بالاستقرار الاقتصادي والخدمات الاجتماعية المتحسنة في ظل حكم حزب العدالة والتنمية الذي دام 15 عامًا.
الشعر كوظيفة
وبوجود الجموع خلفه، يقول أردوغان إنه يسعى لجعل “تركيا عظيمة من جديد”. حيث قال في تجمع جماهيري سبق الاستفتاء: “نحن معًا مع أمتنا، سوف نمشي معًا. نحن نقول: أمة واحدة، راية واحدة، وطن واحد، دولة واحدة. من يمكنه الوقوف أمام هذه الوحدة، التجمع والأخوة؟”.
ويعمل أردوغان وبخبرة على توجيه مشاعر مؤيديه. وغالبًا ما يستعين بالشعر خلال خطاباته، حيث يعزف على وتر مشاعر أتباعه ويؤكد على إحساسهم بالقدر المشترك.
وبعد يوم من الاستفتاء تحدث لجمع غفير تكون من آلاف الناس وقفوا تحت المطر خارج قصره الرئاسي في أنقرة. حيث قال حينها: “لقد مشينا هذا الطريق معًا. لقد تبللنا بالمطر معًا. الآن كل أغنية أسمعها تذكرني بكم”. مقتبسًا كلمات أغنية شهيرة يذكرها غالبًا.
في حين ، قد يكون موضوع الاستفتاء حول حزمة من التعديلات على الدستور التركي، إلا أن الكثير من المصوتين قد اقتيدوا بواسطة مشاعر أكثر بدائية. وهؤلاء الذين دعموا التغييرات الدستورية كانوا يشيدون بمشروع “تركيا الجديدة” لأردوغان. وكان جزءًا من هذا المشروع إعادة تشكيل الطريقة التي تفسر بها تركيا الماضي.
الانتشار الواسع لمسلسل “قيامة أرطغرل” وبقاؤه على قمة تقييمات العروض التلفزيونية كل أسبوع يظهر بأن ملايين الأتراك فعلًا على هذا الدرب