بدأت ملامح الغزل السياسي بين باريس وتل أبيب تظهر جليةً، بعد أن أمسك الرئيس الفرنسي الجديد، إيمانويل ماكرون، مفاتيح “الإليزيه”. هذا الغزل لم يكن صريحاً خلال الحملة الانتخابية لمرشح حركة (إلى الأمام)، في محاولة لكسب أصوات مسلمي فرنسا، وكذلك الحال مع يهودها.
وبعد تمكُّن ماكرون من الوصول بدأ الغزل علنياً، خاصة مع زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لفرنسا، بعد دعوة باريسية لإحياء ذكرى تعرُّض اليهود لعملية اعتقال جماعي في باريس خلال الحرب العالمية الثانية، أعقبه اجتماع بين الزعيمين.
الدعوة الفرنسية لإسرائيل وضعها مراقبون ومحللون سياسيون في إطار قول ضمني على لسان ماكرون بأن إسرائيل هي دولة المواطن اليهودي وليست فرنسا، وعلى هذا المنوال نسج الرئيس الفرنسي خطابه أمام نتنياهو.
ففي خطابه المعسول غير المسبوق، دان الرئيس الفرنسي ما سماه مناهضة الصهيونية كشكل جديد من معاداة السامية، في الوقت الذي اعتبره محللون متابعون للشأن الفرنسي “تصريحاً غير مسبوق من قبل رئيس فرنسي دعماً للدولة اليهودية”.
ماكرون، الصديق الجديد لإسرائيل كما يسميه البعض، قال مخاطباً نتنياهو، الذي يشارك كأول رئيس وزراء إسرائيلي في احتفال كهذا: “لن نخضع أبداً لرسالة الكراهية، لن نخضع لمناهضة الصهيونية؛ لأنه تكرير لمعاداة السامية”.
وخلال الخطاب الذي أخذ طولاً من الوقت في الذكرى الـ 75 لحملة “فيل ديف” (اعتقالات جماعية لـنحو 13 ألف يهودي فرنسي في يوليو 1942، ضمن محاولات النازيين لإبادة اليهود في فرنسا)، دان ماكرون بشدة “إنكار المحرقة ومعاداة السامية”.
وكما الرئيس الفرنسي الأسبق، جاك شيراك، وغيره، تقبّل ماكرون مسؤولية فرنسا وذنبها في المساهمة في إبادة اليهود وترحيلهم عقب الحرب العالمية الثانية، واعترف أن نظام فيشي (نظام حكم فرنسي) نظّمها بشكل فعلي، بل قال: إن “فرنسا نظّمت الاعتقالات بالفعل (..) لم يشارك ألماني واحد”.
وكانت الشرطة الفرنسية قد اعتقلت نحو 13 ألف يهودي بناء على أوامر من النازيين عقب الحرب العالمية الثانية، وتم ترحيلهم بعد ذلك إلى معسكر اعتقال أوشفيتز، في يوليو 1942، ضمن حملة أطلق عليها “اعتقالات فيل ديف”.
وعقب فوزه بانتخابات الرئاسة الفرنسية، في مايو 2017، على منافسته مرشحة اليمين المتطرف، مارين لوبان، علّقت صحف فرنسية على نتائج الانتخابات بالقول: إن “انتصار ماكرون بشرى سعيدة جداً، سواء لإسرائيل أو للجالية اليهودية في فرنسا، التي احتشدت ضد لوبان (..) ماكرون تربطه علاقة قوية باليهود في فرنسا، وله أصدقاء مقرّبون من رجال الأعمال اليهود”.
وفي الخطاب ذاته أمام مئات اليهود الفرنسين في باريس وخلال حديثه، علّق رئيس الوزراء الإسرائيلي كثيراً، لكنه ركز على أن دعوة فرنسا تمثّل “لفتة قوية جداً”، وكررها مرات عدة.
تلاقي وجهات النظر وتقاربها بين نتنياهو وصديقه الفرنسي الجديد قد يعزز مساعي إسرائيل الرامية إلى تهجير الطائفة اليهودية في فرنسا، باعتبارها الكبرى في أوروبا، والثالثة على العالم من حيث وجود اليهود فيها، حيث وصل عددهم إلى نحو نصف مليون شخص، بحسب المكتبة الافتراضية اليهودية.
وفق المعطيات، فقد شهد العام الماضي هجرة 1923 يهودياً فرنسياً إلى تل أبيب، وهذا الرقم يبدو قليلاً مقارنة بـ 3780 هاجروا إليها في الفترة من يناير حتى يوليو 2015، وسط توقعات بزيادة معدل هجرتهم إلى 20%، في حين تتوقع الوكالة اليهودية هجرة نحو خمسة آلاف يهودي فرنسي.
وتقدّم وزارة الهجرة الإسرائيلية إغراءات، من باب زيادة تشجيع اليهود للقدوم إلى تل أبيب؛ منها مساعدة كل أسرة بـ 800 شيكل (225 دولاراً) شهرياً في إيجار السكن، واستيعاب أطفال المهاجرين مجاناً في دور الحضانة، والأمر لا يقتصر على يهود فرنسا فقط، لكن الحكومة الإسرائيلية توليهم اهتماماً أكبر.
وبالرجوع تاريخياً، فإن هجرة يهود فرنسا إلى إسرائيل لم تكن منظمة قبل احتلال فلسطين عام 1948، ولكن خلال الحرب العالمية الثانية بدأت بعض العائلات اليهودية تهاجر إلى فلسطين المحتلة هرباً من الاحتلال الألماني لفرنسا.
وحتى قيام إسرائيل لم يهاجر من يهود فرنسا سوى 3943 إلى فلسطين، وأكثر سنوات الهجرة كانت عام 1949، حيث وصل إليها 1653 يهودياً فرنسياً، وفي السنوات العشر الأولى من قيام إسرائيل لم يهاجر إليها من فرنسا سوى 7768 يهودياً.
ومن الملاحظ أن نسبة اليهود الفرنسيين المهاجرين إلى إسرائيل ضعيفة، وغالبيتهم من اليهود الذين التحقوا بأقارب لهم هاجروا إليها من مناطق مختلفة من أوروبا. بل إن اليهود الذين هاجروا من مصر والجزائر وبقية دول المغرب العربي فضّلوا الهجرة إلى فرنسا على الهجرة إلى إسرائيل.
وتاريخ يهود فرنسا يبدأ من نحو ألفي سنة مضت، ففي مطلع العصور الوسطى، كانت فرنسا مركزاً للتعلم اليهودي، إلا أن الاضطهاد ازداد مع التوغّل في العصور الوسطى، وكانت فرنسا أول بلد في أوروبا يحرّر سكانه اليهود أثناء الثورة الفرنسية، إلا أنه على الرغم من المساواة القانونية، فإن معاداة السامية ظلّت تشكّل مشكلة كبيرة.