لعبت المرأة دوراً جلياً في تاريخ الإسلام، في السلم والحرب، وساهمت في إثراء الحراك الإنساني والثقافي والإداري، ومن النساء اللائي رسم التاريخ اسمهن بحروف من نور، “الشفاء العدوية”، التي تعتبر أول امرأة تولت إدارة الأسواق في عهد خليفة المسلمين الثاني عمر بن الخطاب، وكانت تلك الولاية باختيار الخليفة نفسه، وقد كانت “أهلا لذلك” برواية ابن حزم.
تعتبر الشفاء من أوائل المعلمات الجليلات في الإسلام، ومن النساء القلائل اللائي يعرفن القراءة والكتابة، وساهمت منذ وقت مبكر في تاريخ الدعوة الإسلامية في تعليم النساء تطوعاً منها، وممن تعلمن على يدها السيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب، إحدى زوجات النبي الكريم.
يروى أن اسمها الأساسي ليلى وقد لقبت بـ “الشفاء” وربما كان لهذا اللقب دلالات بعينها، يمكن أن تقود إلى معانٍ متعددة كخبرتها بمهارات العلاج.
وقد تزوجت مرتين، في المرة الأولى من أبوحثمة بن حذيفة القرشي، وولدت له سليمان، ومن ثم تزوجت من شقيقه مرزوق وولدت له أباحكيم.
إذا كانت الشفاء ذات الأصل القرشي، التي ينتهي نسبها إلى كعب بن لؤي، ذات صيت في تاريخ الإسلام، فإن ذلك الأمر بدأ منذ بواكير الدعوة فهي من أوائل النساء المؤمنات برسالة النبي والدين الجديد، وكانت كذلك من المهاجرات مع زوجها إلى الحبشة في الهجرة الأولى للمسلمين، كما بادرت للهجرة المبكرة في المرة الثانية إلى المدينة المنورة.
وفي وقت كان فيه التعلم قليلاً بين النساء كان لإجادة الشفاء القراءة والكتابة دور في حياتها انعكس بجلاء مع بدء الدعوة وتشجيع النبي الكريم لها، الذي كان يكن لها التقدير، وبعد أن هاجرت خصص لها الرسول داراً بالمدينة نزلت فيها مع ابنها سليمان وكان يزورهما في تلك الدار، ما يدل على مكانتها عند محمد عليه السلام.
لقد ساعد الإسلام وتشجيع النبي وصحابته للشفاء في أن تلعب دور القدوة للنساء الأخريات وتزرع فيهن حب العلم والمعرفة، ولابد أن هذا الدور القيادي في مهنة التعليم التي تعتبر من أسمى المهن، حيث يقارن دور المعلم بالنبي، قد أكسب الشفاء مهارات في الإدارة والاقتراب من الناس ومعرفة النفوس والكثير من القيم الأخرى، وغيرها من جملة الأسباب التي شجعت ابن الخطاب على اختيارها لأمر الأسواق.
وأدرك أن السوق ليس بالمكان الهين، فهو ليس مجرد بيع وشراء، بل عمليات معقدة من التفاهم بين الناس والوساطات والصفقات والعقود، وتنظيم حركة البضائع والمبيعات والمشتريات والحفاظ على النظافة والترتيب والنظام العام، وغيرها من المطلوبات التي لا يمكن أن تدار إلا بذهن وقاد ينظر إلى الصورة بشكل كلي وذهني نقي.
وإذا كان من تشبيه لأمر الأسواق ومسؤوليتها، فإن الدور الذي لعبته الشفاء العدوية وهي تتولى هذا الجانب، يماثل دور وزير التجارة في عصرنا الحالي، لأن المسميات تظل مجرد رموز للتوضيح، في حين أن المحتوى أو المضمون هو الأساس في المسألة، وحيث كل مهام وزيرة التجارة قائمة في تفاصيل الأعباء التي أوكلت على الشفاء.
إن الدور الذي لعبته الشفاء بوصفها أول من تولى أمر السوق من النساء، أو ما يعرف بنحو آخر من قبل بعض المؤرخين بـ “حسبة السوق” كان حدثاً لم يتحقق لولا إدراك الخليفة الثاني لميزات هذه المرأة والقدرات التي تجمعت في شخصيتها، كذلك توقير النبي لها، ما أهلها لهذا المنصب، وفضلها على الرجال في توليه لتصبح رمزاً قيادياً.
لكن قبل ذلك، وبالإضافة إلى دور الشفاء المبكر كمعلمة للنساء، فقد كانت من اللائي شاركن في الغزوات مع الرسول، حيث كانت تقوم بدور المطببة. ويروى أن معرفتها بمهنة “التطبب” كانت قديمة منذ أيام ما قبل الإسلام، تعلمتها من ضمن مهارات أخرى في الحياة، وقد اشتهرت بتطبيب داء النملة، الذي تصاب فيه أعضاء الإنسان الخارجية بالقروح لاسيما الجنبين، حيث يشعر المرء كأن نملاً يدب في جسده ويعضه، وهو نوع من أمراض الأكزيما المعروفة حديثاً.
إذا كانت مهمة إدارة السوق تضم جوانب متعددة، بإضافة مفهوم الحسبة فإن هذا الدور يتضمن جانباً رقابياً أيضا في ضبط السلع والمشتريات وسلوك البائعين والحفاظ على الميزان ومنع التطفيف في البيع والشراء، وهو دور ليس بالسهل من ضمن الأدوار المتعددة في ولاية السوق.
غير أن الصورة الأوسع هي أن تلك الولاية كانت عملاً إشرافياً وإدارياً وفيه ما يجمع بين صناعة القرار ورسم الأهداف والخطط، بالإضافة إلى التنفيذ والمتابعة والقدرة على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب والمحاسبة على التقصير، في مؤسسة تتعلق بمصالح الناس وسياستهم في شؤون حياتهم اليومية بمؤسسة السوق، حيث تباع الحبوب والألبسة وكل متطلبات حياة الناس، وحيث صراع الناس حول اكتساب المال والمكانة التي يحصلون عبر ذلك.
ولابد أن ذلك يتطلب مهارات أخرى في المعرفة بالشريعة والقوانين التي تحكم النظام وتسوق العلاقات بشكل سليم، بحيث لا يكون من ظالم ولا مظلوم في هذه المؤسسة الكبيرة، وحيث يكون لوالي السوق أيضا دور الفصل بين الخصوم، فالأسواق في تلك الفترات المبكرة هي مؤسسات معقدة تجمع بين مختلف الأهواء والمصالح والشؤون، وتكاد هي والمسجد المؤسستين الأكبر في الدولة في تلك الحقبة.
توفيت الشفاء بعد حياة عامرة بالعمل والإنجازات والإخلاص لرسالتها الإنسانية، التي جمعت بين المعلم والطبيب والإداري، وشؤون التجارة، وقد كانت وفاتها سنة 20 من الهجرة في سنوات عمر بن الخطاب (قبل ثلاث سنوات من رحيل الخليفة الثاني في 23 هجرية).