استهلك الحوثة -كما يطلق عليهم اليمنيون- القطرات الأخيرة من أعذارهم لتمويه «الانقلاب إسلامي حوثي» الذي قاموا به في صنعاء 7 فبراير 2015 مستخدمين وصفه بالبيان الدستوري؛ ليستمر المأتم الاستراتيجي في اليمن.
لقد اعتقدنا لوهلة أن ما يجري في صنعاء هو تراجع طوعي للمبادرة الخليجية وتقدم لمشروع الحوار الوطني الشامل، رغم أن الأخير جزء من الأولى، فظهر خطأ قراءتنا لما كان يقوم به عبدربه منصور هادي وعلي عبدالله صالح والحوثة أنفسهم، وتجلت في كل مكان في اليمن الانتهازية السياسية كطبيعة بشرية، لكنها لم تكن انتهازية يمنية صرفة، فقد مد كل طرف في المشهد اليمني يده طالباً المساعدة من طرف خارجي؛ في تكرار لصفحات من الماضي اليمني.
ففي 1962 قاد المشير عبدالله السلال انقلاباً على الإمام البدر، وحول اليمن الشمالي لجمهورية بدعم من جمال عبدالناصر، حينها تلقى البدر دعماً من الملكيات في السعودية والأردن وبريطانيا، وكانت بريطانيا نفسها ذراعاً تستعين به سلطنات اليمن الجنوبي ضد مشيخاته التي بلغت 12 كياناً حتى تشكلت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في وحدة قسرية استعانت خلالها بالسوفيت لتكون دولة اشتراكية ذات حزب واحد.
كما أن الاستعانة بالخارج سطر لم يخل منه تاريخ اليمن في العصر الإسلامي أيضاً، ابتداء من العصر الأموي ثم العباسي مروراً بالدول الصليحية والطاهرية حتى الدولة الرسولية 1519، والتي أقامها جياش بن نجاح بمساعدة تركية سلجوقية، واستعانة عامر بن داوود من الطاهريين بالقائد البرتغالــــي أنتونيـــو دي ميرانــــدا «António de Miranda de Azevedo» اقتحم القائــد العثمانـــي خادم سليمان باشا مدينة عدن عام 1538 وصلب عامر، ثم حول سليمان القانوني اليمن لولاية عثمانية، واستمر وجودهم هناك حتى خسروا أمام البريطانيين، الذين احتلوا اليمن بعد حادثة السفينة الهندية داريا دولت «Darya Dawlat» فـــي عهـــد السلطان محسن العبدلي 1838.
ولم نشر لحوادث استقواء المتصارعين بالخارج في تاريخ اليمن كإيحاء متعمد أريد له أن يصبح استنتاجاً في النهاية بأن اليمنيين يستعينون بالأعداء ضد أهلهم، فهذا طرح متهافت، فحين نتحدث عن اليمن؛ نتحدث عن مقبرة الأناضول ورجال بصلابة صخور بلادهم، ومنازل تحاكي القلاع، كما لا يمكن أن نقول إن اليمن مصاب بعقدة الاستعانة بالأجنبي لنظهر وكأننا في الخليج لم نرحب بالأساطيل الغربية، فالاستعانة بالخارج كانت ولاتزال أعدل الأشياء قسمة بين أهل اليمن وأهل الخليج، لكن الفرق هو أن الإنسان لا يستطيع أن يخدم سيدين في آن واحد، وهذا ما يجري هناك حالياً، فالسادة أكثر من المسودين والتحولات المفاجئة في الولاءات تدمر اليمن. لكن اليمنيين لا يمكن أن ينكروا «عقدة سيف بن ذي يزن» أحد أشهر ملوكهم، فقد كان بن ذي يزن على إدراك أن اليمن يمر بمناخات استراتيجية تستحق التسابق الدولي، فأراد أن يخرج الأحباش من بلاده فاستنجد بملك الروم، لكن قيصر النصراني رفض حرب الأحباش وهم على دينه، وكان لابد لسيف من الانتقال من المعسكر الغربي للمعسكر الشرقي، فذهب للنعمان بن المنذر في العراق الذي اقترح عليه أن يستنجد بكسرى، فالنعمان وجيشه لا قبل لهم بكسر الأحباش الأقوياء، بل إنه أشار على كسرى بالموافقة، فأراد كسرى أن يستثمر بالرخيص في هذه المغامرة الخطيرة وجهز لسيف بن ذي يزن جيش مقاتلين من السجناء المحكومين بالإعدام وأرسلهم على 8 سفن، حيث انتصروا على الأحباش، لكنهم تآمروا على سيف بن ذي يزن فقتلوه وأصبح اليمن تحت الحكم الفارسي.
وبعد ما يزيد على ألف وخمسمائة عام لا نجد إلا إنصاف الحوثة بخصلة الوفاء، ليس لاتباعهم نهج إيران وتحركهم بما يخدم مصالحها، بل لإحيائهم عقدة سيف بن ذي يزن في الاستقواء بالخارج، ليستمر اليمن سرداق مأتم استراتيجي