يبني علماء الاجتماع ويمضي الفلاسفة والحكماء على أن للأمم والشعوب أرواحاً، وللبلدان والأوطان سمات وخصالاً، تخلق لها شخصيات وتظهر في كيانات معنوية أقرب إلى الروحيات، ولا سيما الموغلة منها في الحضارة والعراقة، فكيف بمن استل اسمه منها واندكّ وجوده واضمحل فيها، حتى عاد رمزاً لها وعنواناً؟
وأمام العراق، لا بد من حكمة في التعاطي وعمق في الفهم، وبُعد عن المكابرة ونأي عن الارتجال… وأول ما يلوح لك هنا من روح العراق وشخصيته، هو هويته، القبول بها نزولاً على الحق وإيماناً به، أو الإذعان والتسليم لها مجاراة للواقع وأخذاً بالأسباب.
الهوية التي صبغته، واضطرت كلَّ حكّامه لمراعاتها وحملتهم على التماهي معها، إما إخلاصاً وصدقاً أو كُرهاً واحتيالاً، من خلفاء بني العباس الذين ادَّعوا الدخول في أهل البيت ووظفوا نسبهم الهاشمي لذلك، حتى المغول أنفسهم والإليخانيين ثم الصفويين، الذين اندكوا في الهوية وتطابقوا معها، وانتهاء بملوك الحجاز «الهاشميين» فيصل وغازي (أما العثمانيون فلم يكونوا حكاماً للعراق بقدر ما كانوا استعماراً عاماً للمنطقة والبلاد العربية ككل)… كلهم انطلقوا من أن العراق هو عراق المقدسات وعراق التشيّع لآل محمد، الذي يحمل من التمدن والتحضر والزخم العاطفي وسعة الصدر ما يطيق تعدد المذاهب ويفسح لجميع الفرق الإسلامية، بل يسع الأديان الأخرى من مسيحية ويهودية وصابئة ويرحب بها.
الوحيد الذي تعالى على هوية العراق وازدراها هو صدام. ولم يكتف بذلك حتى عمد لمسخها وسعى إلى تغييرها في عمليات ديمغرافية نوعية، تعيد التركيبة السكانية وتقلبها، بما يزيل الهوية التاريخية للعراق منذ ظهور الإسلام! فكان كمن يردم بحراً بل محيطاً بمجرفة، ويهدّ جبلاً، بل سلسلة جبال، بمعول! وهذا بالتحديد كان السبب الأعمق والسر الأبعد لسقوط نظامه وهلاكه.
وهنا علينا أن نتوقف، ونهمس في آذان من يهمهم الأمر، ممن شمَّر عن ساعده وأقبل، وكشف عن ساقه وتحزَّم، أن «ائتوا البيوت من أبوابها»… إنَّ الدخول إلى العراق من «البوابة العربية» عبر خطاب يستبطن ملء الفراغ بما يحول دون الامتداد الفارسي، هو المقولة الصدامية والنظرية البعثية بعينها، وهي فلسفة «البوابة الشرقية» التي جرَّت على العراق والمنطقة ما جرَّت.
علينا أن نخرج من «عُقدتنا» ونتعاطى بما يتجاوز محنتنا، ونتفهم الحقائق التاريخية والجغرافية كما هي، ونرى الأمور من خلال ما تفرزه معطيات الساحة ومخرجات الواقع المعيش… وقد يفاجأ جملة من السياسيين، بل القادة العرب، الذين غلبهم الإعلام وأخذهم التلقين، وقُل إن شئت دس الرأس في التراب، من هذا الظهور الصارخ للشعائر الدينية الشيعية، وتصدمهم القدرة على هذه التعبئة المليونية السنوية، والحضور الجماهيري الكاسح، الذي يمسح العراق من أقصاه إلى أدناه براية «الحسين» الحمراء.. ولكن هذا ليس لنا نحن في الكويت، الجيرة الأقرب إلى ضلعي المثلث الذي يعتصرنا: العراق وإيران، بل حتى الضلع الثالث في امتداده الساحلي ومنطقته الشرقية، فنحن نعرف جيداً أن هذه هي الهوية الحقيقية للمنطقة، وهذا هو الواقع الذي عجزت مطحنة الحروب المتلاحقة، وأخفقت السجون والمعتقلات، وعجز الاضطهاد والتنكيل وحتى المقابر الجماعية، وفشلت سياسات التهجير القسري وعمليات التغيير الديمغرافي… عن أن تمسها وتنال منها، بقي العراق كما كان، بل ازداد تألقاً وإشراقاً.
وهذه هي الرؤية والسياسة التي كانت تحملها دولة الكويت، قبل التوغل التكفيري، ونماء التيار الديني، والسقوط في هاوية التطرف، الذي أنزل بالبعض لوثة عقلية وألحق بآخرين العمى والصمم! ولو عدنا لأرشيف علاقتنا بالعراق، لطالعتنا أول ما طالعتنا صور حكام الكويت ورجالاتها في زيارات للعتبات المقدسة. ومما علينا فهمه واستيعابه، أن عبدالله أو صباح السالم لم يذهبا لزيارة العتبات المقدسة من فراغ، ولم يحملا الهدايا والقربات من تشيُّع لعليّ أو ولاء للحسين! بل من فهم وتعاطٍ استراتيجي، وحكمة تفرض تجاوز التعصب المذهبي والحقد التكفيري، والنظر في مصلحة الكويت قبل كل شيء، التي تفرض احترام الجار، وأولى مراتب الاحترام هي النزول على هويته والاعتراف بشخصيته. ولو كان العراقيون الحقيقيون يملكون أمرهم، وكانت أيديهم مبسوطة، وكان الاضطهاد عنهم محسوراً، لما كانت مطالبات عبدالكريم قاسم لتكون، ولا حادثة «الصامتة» لتقع، ولا كان الغزو الصدامي ليجري، لكنها الأيدي التي غيَّبت الشعب، وراحت تغذيه عبر إعلام شمولي، صوَّر لها ما شاءت، وساقها نحو ما أرادت.
العراقيون كرماء، بل في صدارة العرب كرماً دون منازع، وعاطفيون لقلوب ملأها حب أهل البيت ومعايشة ظلاماتهم، تتفوق فيهم الأريحية ويغلبهم الحياء، ولا يهزمهم شيء ويُشعرهم بالعجز إلا الإحسان. وهم متسامحون في كل شيء، إلا في هويتهم وكرامتهم، ومذهبهم أمر في صميم هويتهم، فالعراق عندهم لا يُذكر إلا مضافاً إليه المقدسات، إنه عراق المقدسات، عراق العتبات، عراق علي والحسين، من سامراء الى النجف وكربلاء، وفي القلب بغداد، رايات رفعتها سواعد فتية آمنوا بربهم، وسقيت بأنهار من دمائهم، والرجال لا يتخلون عن راياتهم.
في رأيي المتواضع أننا تأخرنا كثيراً في الانفتاح على العراق، وإن كان العذر في عدم الاستقرار، فإن أبواب التدخل في الحقل الاجتماعي، الرافد الأصلي للميدان السياسي، كانت مشرعة، ولا سيما عن طريق المرجعية الشيعية التي كانت وما زالت منفتحة على الكويت بشكل كبير، ويبدو أنها حفظت لها عدم تلوثها المباشر بملف الإرهاب، وعدم تدخّلها بما يفتت الساحة ويعقِّدها ويزيد من تأجيج الصراعات فيها.
عموماً، أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً… لكن علينا أن نعرف من أي الأبواب ندخل، وكيف عسانا أن نكسب هذا الشعب، فهو الثروة الحقيقية، قبل الصفقات وتكوين الأسواق التجارية وخلق التكامل الاقتصادي الذي يولد حرصاً متبادلاً يبعث على الاستقرار، فإن الضمانة الأولى والأخيرة هي بناء سد من الرفاهية والنعيم الذي يجب أن يعيشه العراقي (ولا سيما في جنوبه)، مما يجعله يزهد في الهجرة إلى الكويت، ناهيك بغزوها واحتلالها.
* عضو مجلس الأمة