لا تصدق من يقول : ” إن المال لا يشتري السعادة ” ، هو لا يعرف من أين يشتريها ، فإن هنالك متجراً يبيع السعادة مقابل المال ، وسأدلك إياه … قبل ذلك سأوضح لك هفوة من لديه المال ولكنه أخطأ المتجر .
أقام مجموعة من الباحثين في جامعة ستوكهولم السويدية دراسة على 3362 شخص ربحوا قرعة اليانصيب ونالوا أموالاً طائلة ، وكانت الدراسة تبحث مدى سعادة أولئك الأشخاص ورضاهم عن حياتهم بعد سنوات من فوزهم باليانصيب ، امتدت من 5 سنوات إلى 22 سنة بعد الربح .
بَـيَّنت الدراسة رضا الرابحين عن مستوى حياتهم الحالية ، إلا أنهم لم يكونوا أكثر سعادة عما كانوا عليه قبل الربح ، بل إن أغلبهم كانوا أقل سعادة وأكثر عرضة للاكتئاب ، مما جعل بعض الرابحين يعودوا إلى عملهم البسيط الذي كانوا يزاولونه قبل نيلهم الأموال ، لعلهم بذلك يعودوا إلى مستوى السعادة الذي كانوا عليه .
بل كان بعض الرابحين يعلنون إفلاسهم ، لأنهم صرفوا كل ما كان في جعبتهم من أموال في محاولة يائسة للوصول إلى السعادة النفسية لكنهم فشلوا ، أضف لذلك أن بعضهم انغمس في تعاطي المخدرات كطريقة حمقاء للهروب من الواقع التعيس إلى الشعور بنشوة الفرح الزائفة التي تنثرها المخدرات على الدماغ .
أَ ليسَ غريباً أن تحقيق الغنى الذي كانوا يسعون له وشراء كل ما يتمنون خَلَقَ لديهم حالة سعادة مؤقتة تلاشت مع مرور الوقت وخلَّفت بعدها فوضى شعورية ؟!
والأمر لا ينطبق على الغنى فقط ، فدكتور الاقتصاد في جامعة ستوكهولم روبرت أوسلنغ Robert Ostling أقام دراسة على الأشخاص الذين يحققون إنجازات عظيمة في حياتهم ومدى سعادتهم بتلك الإنجازات بعد مرور الوقت ، فكانت الحصيلة إنهم ليسوا أكثر سعادة بها ، هذا إن لم يكونوا أقل بعد تحقيقها .
وفي دراسة أخرى أجرتها جامعة هارفرد الأمريكية تحت إشراف الدكتور لانس دودس Dr. Lance Dodes ، خيروا مجموعة من طلاب الجامعة بين عدة أمور ( أن يكونوا سعداء – أن يكون لديهم سلام نفسي – أن يكون لديهم شريك حياة محبب – أن يحققوا إنجازات بمعدل أكبر ) .
الغالبية اختارت أن يحققوا إنجازات أكبر ، ظناً منهم أن الإنجازات تجلب بالتبعية سعادة عظمى وسلام نفسي وتجعلهم أكثر قابلية للحب .
عَـلَّق الدكتور دودس على النتيجة وقال : إن اختيارهم لتحقيق الإنجاز أمر لا بأس به نظراً لطموحهم ، إلا أنهم يجهلون أن هذه الإنجازات لن تحقق لهم السعادة التي يرجونها ، بل ستجعلهم يشعرون بفراغ كبير ، بل ربما تجعلهم عرضة للاكتئاب ، وستجعلهم مع الوقت متوترين ، ولن يدركوا حينها أن كل هذه المشاعر السلبية ستكون ناتجة عن تحقيق الإنجاز في حد ذاته .
وأيضاً دراسة أخرى للدكتور كينون شيلدون Kennonn Sheldon قال في نتيجتها : لا يوجد سعادة مكتسبة تدوم للأبد ، وكل سعادة ناتجة عن تحقيق انجاز أو تغير في الظروف المحيطة تختفي مع مرور الوقت .
السبب في هذا الأمر الغريب هو أن الدماغ يقوم بعملية تُسمى تَـكـيُّف اللذة ( Hedonic Adaptation ) .
يكون شعورك بالمتعة والسعادة قبل تحقيق الإنجاز أو الغنى مستقر نوعاً ما ، وعندما تحقق ذلك وتكتسب سعادة عظيمة يفرز الجهاز العصبي الكثير من هرموني الدوبامين و الإندورفين “ Dopamine – Endorphin” واللذان بدورهما يحاربان الاكتئاب ويشعرانك بالكثير من الألفة والسعادة .
وهما هرمونين مكلفان جداً ويستهلكان الكثير من الطاقة العقلية والبدنية ، فهرمون الإندورفين مثلاً هو الهرمون ذاته الذي يفرزه الجسم عندما تقوم بمجهود عالي كالركض لمدة تتجاوز العشرون دقيقة .
ولأن الدماغ ذكي جداً فإنه وبعد الشعور بالسعادة يقوم بمحاولة خفض هذا الشعور وارجاع الاستقرار إلى الدماغ وتقليل كمية الهرمونين ، لتعود كما كنت قبل تحقيق الإنجاز ، وهذا هو تكيّف اللذة ، أن تتوقف عن الفرحة بما حققت .
وهنا مربط الفرس ، فالدماغ جرب شعور متعة الإنجاز وحلاوة الدوبامين و الإندورفين عندما يكونان بمستوى عالي ، ومع مضي الوقت وبعد أن أجرى الدماغ تكيّف اللذة ستشعر بفراغ وتعطش للسعادة التي تلاشت منك ، وهذا ما قد يقودك للشعور بالاكتئاب ، فتشرع في البحث عما يُشعرك بالسعادة مرة أخرى ، فتبقى دائماً متعطشاً للمزيد وهذا يُربك الدماغ ويشعره بالكثير من القلق .
الأمر أشبه بمدمن المخدرات ، فالمخدرات ترفع مستوى الدوبامين ، فيشعر المتعاطي بلذة المخدر ، وما إن يزول تأثيره يفتقد السعادة والنشوة ، وتبدأ أعراض الانسحاب والشعور بالكآبة والقلق ، فيسعى في البحث عن الجرعة القادمة من المخدر .. وهكذا هلم جراً .
وأمثلة تكيف اللذة كثيرة في حياتنا ، فمثلاً تشتري تلفوناً جديداً فتكون فرحاً به وتشتري له الأغطية الحامية بمختلف الألوان وتُنصِّب فيه البرامج ، وتحافظ عليه من الخدوش ، ومع مرور شهر تتلاشى فرحتك تلك .
وفي كتاب أسعد “happier” ابتكر عالم النفس في جامعة هارفرد تال بن شاهار Tal ben Shahar مصلحاً يُسميه مغالطة الوصول arrival fallacy ، وهو الاعتقاد أنك عندما تنجز شيئاً وتصل لهدف ما ستحصل على السعادة التي تتمناها إلى الأبد ، ولكن الحقيقة مخيبة للآمال ، فالطريق إلى تحقيق الهدف أجمل من إنجازه ، والكتب التي تُباع حول سر في الوصول للنجاح ونيل السعادة هي ضحك على العقول وجهل محض .
ومبدأ تكيف اللذة ( Hedonic Adaptation ) ، لا يعمل على الجوانب الإيجابية في حياتنا فقط ، بل على السلبية كذلك ، فعندما تتعرض لموقف سيء وينحدر مستوى السعادة إلى القاع ، يحاول العقل ارجاع الأمور إلى مجراها الطبيعي وتلطيف الدماغ ومواساته ليعود إليه الاستقرار .
وفي محاضرة صادمة لعالم النفس الشهير دانيل غيلبرت Daniel Gilbert كشف عن دراسة أجراها على مجموعة ربحت اليانصيب ومجموعة أخرى تعرضت لحوادث سيارات أصابتهم بالشلل النصفي وسيكملون حياتهم على الكراسي المتحركة ، وقاس مستوى سعادتهم بعد سنة واحدة فقط من الربح والحادث ، ورأى أن الاثنان يتساوون بمستوى السعادة التي يشعرون بها !!!! ، تكيّف الاثنان وعاد العقل للاستقرار .
لا سعادة تبقى ولا حزن يدوم … “كلووووو رايح” ، كقول الله جل علاه : {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} .
الخطأ الذي يفعله من يحصلون على الأموال هو أنهم ينفقون أموالهم بالشراء والاستثمار وما أشبه ، ظانين أن هذا ما سيعود عليهم بالسعادة الدائمة ، ولكن تكيف اللذة يحرمهم من ذلك ، ولن يتبقى أمامك – مع مرور الوقت – إلا القيمة العملية للشيء الذي اشتريته ، وحينها ستتساوى الساعة الثمينة بالساعة الرخيصة ، فكلاهما يُبين لك الوقت ، وعند ذلك تكون السعادة بشراء الساعة الثمينة سراباً زائلاً ، لذلك ترى أن الأثرياء العقلاء والمثقفين لا يهتمون بالمظاهر ودفع الأموال الطائلة على أغلى الملابس والساعات ، فأحد أغنى خمس أشخاص في العالم مؤسس فيس بوك مارك زوكربيرغ لديه ملابسه البسيطة المتشابهة التي يرتديها دائماً ، والتي اشتراها من محلات Zara ، كذلك كان من قبله مؤسس شركة أبل ستيف جوبس .
بعد أن أدركت أن المال وصرفه على ما تريد شراءه لن يهب لك السعادة الحقيقية ، سأدلك على المتجر الذي يبيعها .
أجرى الباحث في مجال العلوم الاجتماعية الدكتور ميشيل نورتن Michael Norton دراسة في جامعة هانوفر الكندية ، إذ ذهب للطلاب و وزع عليهم أظرفاً فيها بعض المال – بعض الأظرف 5 دولار وبعضها 20 دولار – ، مكتوب في نصفها قبل حلول الخامسة مساءً أنفقها على نفسك ، وفي النصف الآخر مكتوب قبل الخامسة مساءً أنفقها على شخص آخر.
المجموعة التي أنفقتها على نفسها بعضهم اشترى قهوة وبعضهن اشترين مكياجاً وهكذا ، والمجموعة الأخرى التي أنفقتها على أشخاص آخرين اشتروا القهوة لزملائهم أو اشتروا الهدايا لمن يحبون أو أعطوها لفقراء .
كانت كثير من عمليات الشراء متشابهة إلا أن نصفهم اشتراها لنفسه والآخرين اشتروها لغيرهم ، وحصيلة الدراسة هذه أن الذين أنفقوا المال على غيرهم كانوا سعداء جداً بما فعلوا ، بينما الذين أنفقوا المال على أنفسهم وبحلول العاشرة مساء كانت سعادتهم مستقرة ولم يحدث لهم شيء ، واستغرق الأمر أقل من خمسِ ساعات لعودة استقرار الدماغ نظراً لبساطة المبلغ .
التجربة السابقة أُقيمت في كندا ، فهل إذا ذهبت إلى فقراء في بلد فقير ستتساوى نتيجة الاختبار ؟
ذهب الدكتور ميشيل إلى أوغندا وأعاد التجربة ، فكانت النتيجة متشابهة أيضاً ، الذين صرفوا الأموال على غيرهم كانوا سعداء جداً بما فعلوا ، بينما الذين صرفوها على أنفسهم وبعد مضي خمس ساعات كأن شيئاً لم يكن .
وكان أسعد شخص في تجربة أوغندا – واستمرت سعادتها لسنوات بعد التجربة – هي امرأة أعطيت مبلغ 15 دولار أمريكي ، فرأت في الطريق صديقتها وبيدها طفلها المصاب بالملاريا ، فأعطتها المال لشراء الأدوية له نظراً لعدم قدرة أمه على شراء الدواء ، ولإنقاذها حياة طفل بريء كانت أسعد من غيرها بهذا العمل .
هنا ترى أن السعادة المترتبة على مساعدة الآخرين كانت أطول عمراً من السعادة بشراء شيء تحبه .
أكد هذه النتيجة عالم النفس دانييل غلبرت Daniel Gilbert في بحث أجراه عام 2011 مع مجموعة أخرى من علماء النفس ، يؤكد فيه أن إنفاق الأموال لسعادة الآخرين أو تحقيق متطلبات حياتهم يصنع سعادة طويلة المدى ، ويضيف على ذلك أن مقاومة جشع النفس وتربية الذات والتمتع بمبادئ عليا لأجل الآخرين من شأنه أن يحقق الرضا عن النفس والسلام الداخلي والسعادة المعمرة .
إذن من يملكون الأموال يخطؤون في صرفها على أنفسهم وشراء كل ما يتمنون ظناً منهم أن هذا ما سيسعدهم ، لكنه لن يحقق لهم السعادة والسلام الداخلي ، بل سيجعلهم متعطشين للمزيد والمزيد كي لا يشعروا بالفراغ والكآبة ، إلا إنهم حتماً سيغرقون في ظلماتها ، وصدق الإمام الحسين ابن علي عليهما السلام حين قال : مثل الدنيا كمثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى يقتله .
ولن يجد الناس متجراً يبيع السعادة والرضا الدائمين خير من متجر مساعدة الآخرين وادخل السعادة على قلوبهم ، وتبقى أفضل حِكمِ السعادة هي : أسعد من حولك تُسعد .