الحياة أشبه بالكابوس عندما لا تستطيع أن تثق بأحد ، كأنك معزول في صحراء لا ترى سوى التراب ، هكذا سيبدو الأمر ، فالثقة هي الركون مطمئناً إلى شخص يؤمن قلبك بأنه يمكنك الاعتماد عليه وائتمانه ، ولذا لن تفلح معظم علاقاتنا ومعاملاتنا دون الثقة ، فينتهي بنا الأمر إلى العزلة .
وهنا يكون السؤال .. كيف تنشئ الثقة ؟ وما الوسيلة لكسب ثقة الآخرين ؟ وهل تعود الثقة بعد تحطمها ؟
إن الثقة مثلث بثلاثة أضلاع ، فإن اجتمعت فيك الأضلاع فعند ذلك تكون أعظم حظاً في كسب ثقة الآخرين ، وفي حال تزعزع أحد الأضلاع الثلاثة فإن الثقة تقع تحد التهديد ويشوب طمأنينتها الخوف والشك .
الضلع الأول – العاطفة
التعاطف هو أروع أدوات التواصل الاجتماعي ، وهو مؤسس الثقة ، وشعور الآخرين بأن عاطفتي متجهة إليهم ومنحازة لهم يجعلهم أكثر قابلية للوثوق بنا ، فالشعور يُقابل بالشعور ، والعاطفة تُقابل بالحب والثقة ، لذلك يُعد الإفصاح عن عواطفنا الإيجابية اتجاه الآخرين بوابة لوثوقهم بنا .
ولن يثق بك من تصاحب عدوه ، فأنت لست في صف عاطفته ، فالقلب يؤمن بـ” إن كنت تحبني فأحبِب من أُحب وأبغُض من أبغِض” ، وكما قال الإمام علي عليه السلام : أعداؤك ثلاثة : عدوك ، وعدو صديقك ، وصديق عدوك .
والاهتمام حليف العاطفة ، فالقلب يميل للوثوق بمن يهتم به ، ومن الاهتمام أن تكون مستمعاً جيداً لمن يُحدثك ، فمما أظهرته إحدى الدراسات أننا نكون أقل ثقة بالأشخاص الذي نتحدث معهم وهم ممسكين بهواتفهم يعبثون بها ، فإننا نعتقد بأن المصغي لنا جيداً سيفهمنا وهذا يُساعد على الوثوق به ، بينما العابث بهاتفه فإننا غالباً ما سنظن بأنه لم يفهم ما تحدثنا به .
ومما يُفسد إيمان الآخرين بتعاطفنا معهم هو شعورهم بأننا أنانيون ، ونفضل مصلحتنا على من سوانا ، وأننا قد نخون مصلحتهم في سبيل مصالحنا ، وكسر صفة الأنانية يكون بالتضحية ، واشعار الآخرين أن مصلحتهم تعلو على مصلحتنا ، وفي دراسة لقسم علم الاجتماع في جامعة ماكسمليان في ميونخ بينت أن الأشخاص النرجسيين المحبين لذواتهم يكونوا أقل قابلية للثقة .
الضلع الثاني – الصدق
في العقل اللاواعي يدرك الإنسان أكثر بكثير مما يدركه تفكير عقله ، وفي لحظات بسيطة من مشاركة التحدث تدرك عقولنا اللاواعية صدق المتحدث من عدمه ، وترسل إشارات خفية لقلوبنا لعدم الاطمئنان ، علاوة على ما قد تدركه عقولنا من كذب أو تصنع المتحدث والذي سيزيد طين الشك بِلّه .
وعندما يشعر الآخرين بأنك إنسان صادق ، وما تتحدث به نابع من حقيقة ذاتك ستتضاعف فرصك للوثوق بك ، لذلك فإن أفضل وصفة لكسب المزيد من الثقة هي ” كُـن نفسك ” دون تصنع أو كذب ، فالثقة لا تتطلب النوايا الحسنة دائماً ، فأعضاء العصابة الواحدة يثقون في بعض عند تخطيطهم لتنفيذ جريمة ما .
لذلك من الأفضل أن تكون مع من يشبهك ، أن تكون مع من لو عِشت بسجيتك وطبيعتك سيراك جميلاً ، فالكذب هو الخوف من قول حقيقة قد لا تعجب الآخرين ، والتصنع هو محاولة لخلق ذات أخرى لكسب رضا الآخرين و ثقتهم ، وهذه حماقة ، فبينما نعتقد أن الكذب والتصنع سيزيدان من ثقة الآخرين بنا واطمئنان قلوبهم ، نحن لا نحصد منهم إلا تصنع ومجاملة أخرى نجبرهم عليها ، فكما تصنعنا لإرضائكم تصنعوا لنا الرضا ، وكما أخفينا عنكم الحقيقة اخفوها عنا … وهلم جراً .
لذلك لا تهتم بما يريد أن يسمع الناس منك ، اهتم جيداً بما تريد قوله أنت وما يمثل الحقيقة فهذا ما سيزيد وثوقهم بك حقاً ، وإن رأيت أن الحقيقة مُرَّة فحَسِّن من جودة الحقيقة لا من جودة الكذب .
الضلع الثالث – المنطق
لمستوى التفكير لدى إنسان ارتباط وثيق بالثقة ، فاستحسان الآخرين لقيمنا وطريقة تفكيرنا تجعلهم يطمئنون لخططنا ونصائحنا وتصرفاتنا وبالتالي تـتعزز الثقة ، أما الحمقى فإننا نتخوف من آرائهم قبل أفعالهم ، فما قد يعتقدونه فائدة لنا قد يضرنا ، ورحم الله سيد البلغاء علي ابن أبي طالب حين قال : إيّاكَ ومَوَّدَةَ الأحْمَقِ ، فَإنَّهُ يَضُرُّكَ مِنْ حَيْثُ يَرى أنَّهُ يَنْفَعُكَ وَ يَسوءَكَ وهُوَ يَرى أنَّه يَسُـرُّكَ .
ولكن أحياناً الأمر لا يتعلق بسلامة المنطق وآلية التفكير ، بل بطريقة ايصاله ، وعادة ما يكون هنالك طريقتان لإيصال الفكرة ، الأولى أن تكون آلية مليئة بالدراما والغموض ، فمثلاً لو سألك صديق عن رأيك في رحلتك السابقة وبدأت بقص الأحداث الدرامية التي حدثت بها ، وأخفيت عنه بغموض بعض المعلومات كأسماء المدن التي زرتها وما أشبه ، فإن قابلية وثوقه بك لتكون شريكه في رحلته القادمة ستكون معدومة .
لأن عقولنا لا تحب أن تصرف كثيراً من الطاقة في التفكير والتحليل ، بل إن عقولنا تحب تلك الأمور الواضحة والأجوبة البيّنة ، وتحب الأدلة التي تطمئنها ، لذا فمن الأفضل أن تكون آراؤك وطريقة تحدثك مباشرة و واضحة ، وأن تدعمها بالأدلة التي تؤيد صحتها ورجاحة منطقها .
– – – – – –
وعلى الرغم من أن الأضلاع الثلاثة هي قِوام الثقة وأساسها إلا أن هنالك عوامل أخرى تدخل لاطمئنان القلب و رفع معدل الثقة فيه ، فالثقة بشكل بيولوجي بحت هي فرز الجسم لهرمون الأوكسايتوسين ، وهو هرمون الحب والألفة ، فيقلل الخوف ويرفع معدل الطمأنينة والحب وبالتالي تنشأ الثقة .
لذلك فإن تقلب المزاج والمرور بحالة نفسية سيئة يقلل من ثقتنا بالآخرين ، ليس لأنهم ليسوا كفئاً لذلك ، بل لأننا مشوشون .
ولك أن تصدق أن للجمال يد في الثقة ، فنحن نكون أقرب للثقة في الأشخاص الأكثر جمالاً ، وفي دراسة للدكتور ميشيل كوسفلدMichael Kosfeld نشرها في مجلة Nature ، رأى أن المنطقة المسؤولة في الدماغ عن الإثارة البصرية يرتفع نشاطها وتحفز الأعصاب لفرز الأوكسايتوسين عند رؤية الجمال ، لذا إن كنت تُعاني من قلة ثقة الآخرين بك .. أرجوك راجع المرآة .
وتختلف الثقة باختلاف الأفراد والمجتمعات ، فمثلاً الأمريكيين يمنحون الثقة بشكل أسهل من اليابانيين والألمان ، كما تبين الأمر في دراسة استخدمت لعبة “الثقة وارجاع المال” .
وفي بحث للبروفسورة ماريانا بوغوسيان Marianna Pogosyan تشير إلى أن في بعض أجزاء العالم كالولايات المتحدة أو بريطانيا أو استراليا أو شمال أوربا ، يميل الناس إلى فصل الثقة المعرفية في العمل عن الثقة العاطفية في العلاقة ، بينما في آسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية يميل الناس إلى نسج الثقة المعرفية والعاطفية معاً .
وهذا النمط الفكري مؤثر في العلاقات والثقة ، فكما تروي ماريانا في بحثها أن مجموعة من التجار الأمريكيين عرضوا على شركة صينية سعراً جيداً في التصنيع ، إلا أن الشركة الصينية رفضت العرض و وافقت على عرض ماليزي رغم ارتفاع سعره مقارنة بالأمريكي ، لأن الماليزيين بثقافتهم دعوا أصحاب الشركة الصينية إلى الغداء وتحدثوا عن حياتهم ثم عرضوا عليهم السعر والعمل سوياً ، بينما الأمريكيين عرضوا السعر مباشرة دون ابداء ثقة عاطفية بهم كما فعل الماليزيـين .
والآن بعد أن تبين لك نشأة الثقة وعواملها … هل تظن أن الثقة يُعاد بنائها بعد أن تحطمت ؟
كما قلت أن الثقة شعور ، والمشاعر تختلف باختلاف الناس ، ورغم أن الجميع متفق على صعوبة اعادتها ، إلا أن الشخص المتسامح في طبعه وشخصيته يميل إلى إعطاء الفرص لإعادة بناء الثقة ، بينما الأشخاص الواقعيين والمتحفظين لا يميلون للغفران وإعادة بناء الثقة .
ورغم هذا سأدلو بنصيحتي لما يُساعد على إعادة بناء الثقة …
أولاً حاول إعادة ترميم مثلث الثقة عند من تكسرت الثقة بينكم ، وذلك بخلق عاطفة وتضحية والافصاح عن مشاعر المودة والحب اتجاهه ، وحاول أن تبين له صادقاً الحقيقة الكاملة لما حدث عند تحطم الثقة ، كذلك بين له الخلل المنطقي الذي قادك لفعل ما يكسر الثقة ، وبين له الدرس الذي تعلمته من هذا الخطأ والصواب الذي ستسعى إلى فعله فيما يأتي بلاحق الأيام .
وهنالك خدعة بسيطة أشرت لها في مقال “القُبلة بِيَوم” وهي اللمس والذي يزيد من هرمون الأوكسايتوسين ، فعند اعتذارك لمن أخطأت امسك بيده ولو استطعت عانقه ، ليزيد ذلك من فرصة إعادة الثقة .
ولكن .. نصيحتي الأهم هي حسن التصرف والحذر من كسر الثقة عند الآخرين ، فإن جُـلَّ القلوب تؤمن بما قاله الشاعر :
إِنَّ القُلوبَ إِذا تَنافَرَ وُدُّها * مَثَل الزُجاجِ كَسرُها لا يُلحَمِ