في ميناء برشلونة التجاري حيث تقف العديد من الباخرات لتـتزود بالطعام والوقود وتواصل طريقها لموطنها ، تعطلت إحدى السفن التجارية الضخمة ، وكان محركها الأساسي لا يعمل ، فاستعان أهل السفينة بذوي الكفاءة من الفنيين لإصلاحها ، ولكن بعد محاولات دامت لأسبوع لم يفلح أحد منهم بإصلاحها .
أشار أحد العاملين بالميناء على ربان السفينة بالاستعانة رجل كبير في السن كان يعمل مهندساً ميكانيكياً للسفن ، ولديه من الخبرة ما قد يساهم في إصلاحها ، فوافق الربان على ذلك .
أتى العجوز إلى السفينة مع حقيبة عدةٍ بالية كسنين عمره ، فتفحص المحرك قطعة تلو القطعة ،وبعد ساعة من التدقيق أخرج من حقيبته مطرقةً وضرب قطعةً في المحرك بعض الضربات ، ثم شغل المحرك ليعود إلى العمل بكل كفاءة .
وعندما سأله ربان السفينة عن تكلفة الصيانة ، قال : 10.000 يورو ، فصُعِقَ الربان لهذه التكلفة الباهظة مقابل عدة ضربات بالمطرقة فقط ، فطلب منه مستنكراً تفصيل الفاتورة .
فكتب له على ورقة : 5 يورو لخمس ضربات بالمطرقة ، 9.995 أين تُضرب المطرقة .
الفرق بين المهندس العجوز وربان السفينة ، أن المهندس يعرف قيمة المعلومات ويُطالب بها ، بينما الربان يرى الأمور بتجرد ظاهري وأن الأمر ليس أكثر من خمس ضربات بالمطرقة وتناسى أن خلف الطرق عقلاً واعياً يعلم مكان الخلل وكيفية إصلاحه .
الناس لا تعرف قيمة المعلومة … هذه احدى مآسي الحياة الأزلية .
منذ القِدم وكانت المعلومة من أكثر البضائع كساداً ، وأقلهم قيمة في أعين الناس ، فلن تجد رسولاً إلا وقد جحد الناس كتابه ، وازدروا كل بَـيّنات الحق الواردة فيه ، وقالوا له : {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} .
يكمن الخلل في المنطق الذي تُقاس به القيمة ، فعادة ما يقيس الناس الأشياء بمردودها المادي المباشر ، وبحجم انتفاعهم منها ، وسأضرب لك مثالاً :
لو أني أمتلك معلومة عن الأسهم والبورصة ستجعلك تربح ضعف ما تملك ، فإن المعلومة ستختلف قيمتها من تاجر لآخر ، فالتاجر الذي يملك عشرة آلاف وستتضاعف أرباحه لعشرين ألفاً ، قد يشتري مني المعلومة بخمسة آلاف ، بينما التاجر الذي يملك مليون دينار وسيربح مليوني دينار قد يشتري مني المعلومة بخمس مائة ألف دينار ، ورغم أنها المعلومة ذاتها إلا أن حجم انتفاعهم منها كان مختلفاً .
ولو أن هنالك معلومة قيّمة ولكنك لن تنتفع منها فغالباً لن ترى لها ثمناً ، و الأسوأ أن تكون تلك المعلومة ذات مردود معنوي وغير مباشر كمعلومات حول التربية ، فالأعزب لن يرى قيمةً لكتاب يتحدث عن تربية الأبناء ومشاكل المراهقين ، لذلك دائماً ما ستكون هنالك معلومات يُظلم حقها بالتقييم .
واليوم وفي وسط التطور التكنولوجي .. زاد الطين طيناً وبلة ، فقد أصبحت المعلومات مجانية على الإنترنت ، وأصبح بإمكانك تحميل الموسوعات العلمية بلمسة على شاشة الهاتف ، والكتب التي كان يقتتل بعض الناس عليها قديماً ولا يعيرونها لأحد أمست يُقام لها الإعلانات لتُحَمِّلها بالمجان في يومنا هذا ، وهذا ما زاد الكتب والمعلومات ازدراءً وفقاً لقانون العرض والطلب والذي يقول : ” لو زاد الطلب وقل العرض تعلو القيمة ، ولو زاد العرض وقل الطلب تقل القيمة ” ، فالكتب والمعلومات متوفرة بكثرة ، أكثر بكثير من الطلب الواقع عليها ، وهذا ما يجعل قيمة المعلومة تنحدر أكثر فأكثر ، ولذلك لن تجد اليوم كالشاعر الذي مَـرَّ به صديق ليستعير منه كتاباً فأنشد قائلاً :
ألا أيها المستعيرُ الكتابَ * ألا ارجعْ بغيرِ الذي تطلبُ
فلمس السماء وأخذ النجوم * بكفِّكَ من أخذهِ أقربُ
في الدراسات التي قام بها دكتور علم الاقتصاد السلوكي George Loewenstein جورج لوينشتاين تحدث عن أشكال زهد الناس في المعلومة وأسبابه ، فرأى أن الناس تزهد في الحصول على المعلومات التي بالمجان ، وترفض دفع المال مقابل المعلومات نظراً لوجودها بالمجان ، وبين ” حانه ومانه ” تُظلم المعلومة .
والناس تزهد أيضاً في المعلومات المخالفة لمعتقداتهم وأفكارهم ، فنادراً ما ستجد مسيحياً يدفع ثمناً لشراء القرآن ، وفي عالم التواصل الاجتماعي يُفضّل الناس متابعة من يميل لأفكارهم ويُشابهها ، لأنهم سيرون من المعلومات ما يوافق أهواءهم ، بل إن برمجة البرامج الاجتماعية معتمدة على ذلك ، ففكرة ( الإعجاب Like ) قائمة على تفضيل ما راق لك .
ويقول الدكتور جورج أن زهد الناس بالمعلومة يكون أحياناً بسبب عوامل المتعة ، مثل الحد من القلق أو عدم الشعور بالندم والأسى ، أو للحفاظ على حالة التفاؤل ، فكما يقول د. جورج قد تشتري شيئاً وترفض سماع معلومة عن سعر السلعة في المحلات الأخرى كي لا تعرف أنه يُباع بسعر أرخص فتندم على شرائه ، ويقول أيضاً أن كثير من الرياضيين – في الرياضات الفردية كالرماية – يفضلون عدم معرفة معلومات عن خصومهم لأن ذلك يشعرهم بالقلق ، وقوة الخصوم قد تعدم روح التفاؤل فيهم .
وفي دراسته تتبع د. جورج العديد من الرياضين الذين زهدوا في المعلومات ، وكان لذلك مردود نفسي إيجابي مباشر وأبعد عنهم القلق ، إلا أنه على المدى الطويل لموسم سنوي كامل تأثر الرياضيون سلبياً لزهدهم بتلك المعلومات .
تماماً كما حصل مع العديد من أصحاب الشركات الذين زهدوا في المعلومات حول الخصوم والسوق والتي ظنوا أنها قد تُؤثر سلباً على حالتهم النفسية ، إلا أنهم خسروا لتركهم سماع المعلومة .
وهذا يُنبئك أن الزهد بالمعلومة لا يُقلل من حقيقة قيمتها ، بل إن الزاهد فيها هو الخاسر الأكبر ، فاغتنم المعلومة حق اغتنامها .
وينبغي لنا التساؤل كيف يمكن معالجة اضطهاد قيمة المعلومة ؟
الكتب والمعلومات تعكس حقيقة ذواتنا وطريقة تفكيرنا ، ولو كنا فارغين داخلياً فلن نرى للمعلومة – وإن كانت عظيمة – أي قيمة ، وكما يقول الكاتب والشاعر الألماني : جورج كريستوف لشتينبرغ : الكتاب مرآة إذا نظر فيها القرد فلن يرى قسيساً .
لذلك يجب أن نرمم ما بداخلنا ، برفع مستوى تفكيرنا واختيار أهداف وتخصصات تليق بعقولنا ، لكي تعرف قيمة المعلومة التي تقرأها وتبحث عنها ، وتنتفع منها .
وإن لم يكن هنالك مجال محدد يستهويك ، فكُن كما قال عباس محمود العقاد : يقول لك المرشدون: اقرأ ما ينفعك ولكني أقول بل انتفع بما تقرأ .
وكلما زاد انتفاعك بما تقرأ زادت قيمته في عينيك ، فتدبَّـر ما تقرأ .
وأخيراً … أرجو أن تكون هذه المدونة ومقالاتها التي بين يديك قَيّمة وتمنح قارئها إضافة ونفعاً جميلاً في حياته.