أوشك الموسم الرمضاني على الانتهاء ولا تزال الدراما التراثية الوطنية “رحى الأيام” تتصدر المشهد وتحتل مقدمة التريند بمواقع التواصل الاجتماعي في الكويت والخليج التي غلب عليها التعبير عن مدى ارتباطهم بالعمل الذي اخترق عقودا لم تجرؤ الدراما الخليجية على زيارتها من قبل حاملا المشاهد عبر آلة الزمن ليعيش حقبة مفعمة بالمشاعر والأحداث والثراء المعرفي والاجتماعي والتاريخي.
ولا شك أن عملا بهذا الانتاج الضخم يحقق حجم متابعة كبير في كافة دول الخليج باعتباره يؤرخ ويكشف جانبا مهما في تاريخ المنطقة والكويت والهجرات القادمة إليها من دول الجوار في أوائل القرن الماضي وحتى الستينيات وكيف انصهر الجميع في بوتقة الكويت وحب الوطن محققين نسيجا واحدا في الشدائد رغم الخلفيات الثقافية والاجتماعية وما تضفيه من ثراء وتنوع.
ما دعم العمل وجعله ينفذ إلى قلب وعقل المشاهد العديد من العناصر في مقدمتها البذخ الانتاجي في ضوء الرؤية الإبداعية للمخرج حمد النوري الذي تصدى لإخراج العمل بعد عدد من المشاركات المهمة كمخرج منفذ، مستغلا كل خبراته وموجها طاقاته الفنية، لإطلاق باكورة أعماله بشكل متكامل تتوافر به كافة عناصر النجاح، فضلا عن مستوٍ عالٍ من المتعة البصرية، من خلال مواقع تصوير تعج بالحياة وديكورات واكسسوارات عتيقة وملابس تعبر بقوة عن طبيعة المرحلة الزمنية وخاصة بين النساء اللاتي حرصن على الستر والاحتشام فلا تخرج من بيتها بدون البوشية ما يؤكد المبادئ المحافظة لشعب الكويت.
إلى جانب ذلك كان المشاهد على موعد مع باقة من نجوم الكويت والخليج الذين أضافوا للعمل وأضفوا عليه من خبراتهم وإيمانهم بأهميته في إعلاء روح المواطن واعتزازه بوطنه من خلال استعراض التاريخ المشرف للأجداد وأخلاقهم النبيلة ومعاملاتهم الطيبة فكان العمل بمثابة جرعة يومية من المحبة والانتماء والفخر بالآباء وما زرعوه في النفوس من مبادئ الترابط الأسري والصداقة والتعاون وتجاوز التجار عن المعسرين وتقديم الصدقات، ما جعل “رحى الأيام” عملا عائليا تجتمع حول كافة أفراد الأسرة من أباء وأجداد وأحفاد في مشهد غاب عن البيوت لسنوات.
ويؤخذ على العمل عددا من الملاحظات الخاصة بتاريخ بناء سور الكويت عام 1920 ما دفع تلفزيون الكويت لحذفها بالحلقات 11 و12، كما تم حذف مشاهد جمالية لا تسرد تاريخا بقدر ما تزيد من الترابط الدرامي للأحداث كمشهد عرس الفنان محمد الحملي، إلى جانب بعض حوارات الفنانين، ما أشعل موجة من انتقادات المشاهدين لرقابة الإعلام وما أحدثته من خلخلة بالحلقات التي جرى فيها حذف غير متقن بدا واضحا للمشاهد.
وما يزيد جرعة المتعة للمشاهد الخليجي هو التنوع في لهجات منطقة الخليج العربي من نجدية وزبيرية وقصيمية وكويتية أصلية وما حدث بينهم من مزج أنتج لهجة معاصرة ذات أصول عريقة تستحق الإضاءة.
وجاء أداء الفنانين السلس والديكورات البسيطة والعتيقة والربط الهادئ بين الأحداث والانتقال بنعومة من مشهد إلى آخر وما يبثه المسلسل من قيم الاحترام بين الزوجين والمحبة بين الأصدقاء والتسامح بين الغني والفقير، لتعيد إلى الأذهان ملامح الفن الراقي الذي لأول مرة منذ سنوات يقدم مادة تحمل إثارة وتشويق دون دغدغة مشاعر المشاهدين بلقطات البكاء والحزن والمأساة، ليقدم جرعة من التفاؤل والواقعية بشكل فريد.
واستحوذ الطفل أحمد بن حسين على محبة الجمهور منذ طلته الأولى مجسدا دور بطل العمل “عزيز النجدي” حيث أتقن وأبدع كفنان مخضرم رغم عمره الذي لا يتجاوز 11 ربيعا، أما الفنان السعودي المتمكن ماجد مطرب فقد التقط خيوط الشخصية من أنامل حسين مجسدا عزيز في الكبر بشكل أبهر الجمهور بشخصية عزيز طفلا ورجلا وكأنهما شخصا واحدا، موهوب منذ الصغر، وفنان متمكن من أدواته في الكبر.
أما الفنان عبدالله الخضر الذي لا يختلف أحد على موهبته فلم يعيد إكتشاف نفسه بقدر ما أعاد اكتشاف شخصية النوخذة ذلك القبطان البحري الذي يتسم بالصرامة، ولكنه بتوقيع الخضر جاء ساخرا خفيف الظل يطلق النكات ويجيد القفشات ليس اخلالا بالشخصية بقدر التركيز على الجانب الإنساني في القائد الذي يتسم بالمودة والتخفيف عن مرؤسيه في الرحلات البحرية الطويلة والممتدة لشهور والتي فيها من القسوة والمخاوف ما فيها.
وتلاقى معه في خفة الروح الفنان مشاري البلام الذي جسد شخصية عبدالرزاق الزبيري ذلك الإنسان البسيط الطموح الذي يعمل بائعا في محل للأقمشة، ولكنه رغم بساطة حاله يتسم بقدر كبير من المرح والطيبة، مقدما نموجا للزبيرين منذ بداية تواجدهم في الكويت.
والمميز اعتماد المخرج حمد النوري تكنيكا جديدا يضمن ارتباط المشاهد بالعمل من خلال المفاجآت المستمرة واختفاء الفنانين وظهورهم مجددا في سياق درامي محكم يحقق الإثارة والتشويق، ومنها شخصية الفنان محمد الصيرفي الذي غاب عن العمل بشكل لفت انتباه الجمهور ودفعهم للتساؤل عن سر اختفائه ليطل برأسه من جديد بعد عدة حلقات في مرحلة عمرية مختلفة ليجسد دورين هما الأب رويشد والابن مشعل وما يحدث بينهما من خلافات، ما يجعل الأب يشعر أن التاريخ يعيد نفسه وأن ابنه يرتكب نفس أخطاءه في الصغر و”كما تدين تدان”.
فهل يكرر النوري هذا التكنيك مجددا وخاصة مع شخصية الطفل أحمد الذي حزن المشاهدين لمغادرته المشهد وطالبوا بعودته في الحلقات الأخيرة كما طالبوا بجزء ثاني من العمل الذي فتح شهيتهم لأعمال تراثية لا تقل جودة عن هذا المستوى، وهل ستفتح النهاية مجالا لجزء جديد.. ربما تحمل الحلقات المتبقية مزيدا من المفاجآت.
ولا تكتمل منظومة النجاح دون قصة محكمة وسردا تاريخيا متقنا أبدع في نسج خيوطه الكاتب مشاري حمود العميري الذي وضع خلاصة تجربته الفنية في عمل بهذا الحجم وعكف عليه 8 سنوات استعان خلاله بجملة من المراجع التاريخية الهامة التي توثق لتاريخ المنطقة والكويت ولم يضعف إيمانه بتلك التجربة التي تأخرت كثيرا حتى خرجت للنور مؤخرا محققة ما تستحقه من نجاح وإشادة ليس فقط من الجمهور ولكن من مركز توثيق العمل الإنساني الذي أكد أهمية المسلسل وكونه نقطة تحول في الدراما الخليجية نحو موضوعات أكثر عمقا وجودة.
وتصدى لبطولة المسلسل نخبة منوعة من النجوم، منهم جاسم النبهان، ماجد مطرب، نور، مشاري البلام، مريم الغامدي، محمد الحملي، عبدالله الخضر، أحمد العونان، عبدالإمام عبدالله، شيلاء سبت، عبدالعزيز السكيرين، عبدالرحمن الصالحي، محمد الصيرفي، طارق النفيسي، عبدالعزيز مندني، خالد الثويني، ياسة، رابعة اليوسف، علي المدفع، نواف الشمري، جمال الشطي، عبدالله الفريح، أحمد عبدالله، عادل الفضلي، محمداشكناني، عذاري، والطفل أحمد بن حسين، والعمل من إنتاج قناة المجلس بالتعاون مع شركة زهدم للإنتاج الفني وDOP محمد صالح، ومدير الإنتاج أحمد عبدالله.