هو الموت لا منجى من الموت والذي تحاذر بعد الموت أدهى وأفظع
ليس ثمة أمر أشد على المرء من الموت، هادم اللذات ومفرق الجماعات والآمر بالشتات، والخوف كل الخوف من أن يموت المرء على حين غرة، حيث لا تستقال العثرة ولا تقبل التوبة ويندم حين لا ينفع الندم، وما اجمل قول ابن نباتة السعدي:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
تعددت الأسباب والموت واحد
ونحن متيقنون ان لا منجى من الموت، تأملوا الآيات الكثيرة التي نزلت في الموت ومنها قول المولى عز وجل في سورة الجمعة، الآية «8» «قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون»، وما كنا نعمل في الدنيا هو مبعث خوفنا الأكبر، وثقتنا بالحنّان المنّان ليس لها حد، الواحد الأحد الذي سبقت رحمته غضبه، وكثيرا ما طالعتنا الصحف والوسائل الإعلامية بجملة «انتقل الى رحمة الله تعالى» ومن كثرة ما نقرؤها أصبحت جملة عابرة مثل الأخبار الأخرى، والحق أن هذه الجملة هي أهم خبر، ففيه مآلنا ونهاية هذه الحياة التي عشناها، والعودة من حيث بدأنا، إنه عبرة لمن يعتبر وجرس انذار شديد لنهاية أعمارنا، روى المسعودي في «مروج الذهب» أن معاوية بن ابي سفيان لما احتضر تمثل قائلا:
هو الموت لا منجى من الموت والذي
تحاذر بعد الموت أدهى وأفظع
اللهم أقل العثرة، واعف الزلة، وجد بحلمك على جهل من لم يرج غيرك، ولم يثق إلا بك، فإنك واسع المغفرة، وليس لذي خطيئة مهرب، فبلغ ذلك سعيد بن جبير فقال: لقد رغب الى من لا مرغوب إليه مثله، وإني لأرجو ألا يعذبه، «انتهى» وسأروي لكم حكاية تخص الموت عاصرتها وشاهدتها بأم عيني والله يسألني عنها، ففي سني عمري الأولى كان جدي لأبي مزعل بن عثمان السعيد شديد التدين ورعا، وكانت ثقته وإيمانه بالله قويين، لذلك حفر قبره بيده قبل وفاته بحوالي سبع سنين، في مقبرة الجهراء القديمة بالقرب من مسجد السوق القديم، وهذا القبر ظاهر للعيان قريب من قبر والدته، وبعد ان انتهى من حفر القبر وتسويته، ظل يزوره كل يوم جمعة قبل وقت الخطبة والصلاة بساعتين، فيجلس في قبره ويتمدد ويترك عصاه قريبا منه حوالي الساعة، ثم يقوم من قبره وينفض الغبار ويتوجه الى المسجد سيرا على قدمه، وربما زاره غير الجمعة، فكان هذا دأبه حتى فارق الدنيا حتى إن حارس المقبرة يروي ما يشاهده بدهشة شديدة، وهذا مشهد كنت أراه في سني عمري الأولى وسيظل عالقا في ذهني حتى ألحق بجدي رحمه الله، وعندما يشتد إيمان المرء ويثق بخالقه لا يهاب الموت، ولله در المثقب العبدي حيث يقول:
ولقد علمت بأن قصري حفرة
غبراء يحملني اليها جرشع
وتركت في غبراء يكره وردها
تسفي علي الريح حين أودع
وفي هذا القدر كفاية.