عندما يفارقك من تحب فراقا لا رؤية بعده، ينتابك الحزن الشديد ويعتصرك الألم، فتهون الدنيا عليك بحذافيرها، فبهجة الدنيا وسعادتها أن ترى من يحبه قلبك وتتحدث معه، هم ثقيل يخنقك؛ ووحشة ما بعدها وحشة، وهذا ما أحسست به عندما علمت بخبر وفاة العزيز على نفسي، والقريب الى قلبي، المغفور له بإذن الله تعالى، مطلق النهار، فما أن جاءني هذا الخبر المحزن حتى عادت بي الذاكرة الى شريط ذكريات جميل جمعني بأبي علي منذ فتحت عيني على الدنيا حتى سنين حياته الأخيرة ولسان حالي يردد قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي:
يريد المرء أن يعطى مناه
ويأبى الله إلا ما أرادا
فكل شيء في هذه الدنيا قابل للحل إلا الموت، ليس له حل، فهو حق وكأس لابد أن نعب منه، هذا الرجل الذي فارقناه بالأمس القريب، كان بمثابة الأب والأخ والصديق لي، مكانته عالية ومحبتي له صافية، أحبه ويحبني، ولمن لا يعرفه أقول : هو ابن مخلص للجهراء منذ كانت قرية صغيرة لا تتعدى منازلها المئتي منزل، وهو شاعر مرهف الأحاسيس وأحد أعمدة الفن الشعبي، محبوب من الجميع، شديد التعلق بوطنه، معتز بجهراويته ، اشتهر شهرة واسعة بعد أن تغنى المطربون بأبياته المشهورة «ياحسين أنا عيني سهيرة ما تذوق المنام» ليس في الكويت فحسب، وإنما على مستوى المنطقة، كان على علاقة وطيدة بوالدي عثمان، رحمه الله، فألفته منذ الصغر وأحببت فيه البشاشة والحرص على الموروث الشعبي وشعر الغزل الذي برع فيه، وحبه للناس وقربه من الجميع، وكل من عاصره يعلم كم كان بارا بوطنه وقريته التي أحبها حتى العشق، بنخيلها وسدرها وأثلها وقصرها الأحمر وسورها القديم، ومزارعها المتشابكة، ولم يحمل في يوم من الأيام عداوة لأحد، بل احب الجميع فبادلوه الحب بالمثل، وقد تعلق بالشعر منذ الصغر حتى أصبح أحد أعمدة الشعر وخاصة شعر الغزل الذي تفنن به، فكان هذا الرجل صورة رائعة للجهراء وابنائها، ترى من خلاله كل شيء جميلا فيها، كل هذا تجده في حديثه وابتساماته وحضوره في كل مناسبة، وتمسكه الشديد في الفنون الشعبية الأصيلة وخاصة الفرينسي والمجيلسى والسامري وقبل هذه الفنون العرضة الحربية، ومطلق النهار من الرجال الذين لا يمل حديثهم، فحديثه ممتع يزرع حبه في النفوس ويضفي البهجة على المجلس الذي يحضره، عاصر اجيالا وأجيالا، فكان كتابا مفتوحا لتاريخ الجهراء واحداثها المهمة والقصائد التي قيلت فيها، وقد جالسته كثيرا وعرفت من خلاله احداثا مهمة لم أعاصرها، فكان بالنسبة لي مثل الموسوعة، التي أجد بها تاريخ الجهراء، ولما تقدم به العمر وبدأ ينسى، كنت اجلس بالقرب منه في ديوان فهد فريح المهوس، فأقول له «بوعلي» ليت الوزارة تطول عطلة الربيع، فيبتسم ويقول على الفور: «مدة ثلاثين يوم مع لياليها» ويكمل بقية الأبيات حتى نهايتها رحمه الله، ثم يصمت لبرهة فأشير لمن بجواري وكأني لا أعنيه فأقول: أنا البارحة ساهر الليل كله، فيعاود الابتسام ويكمل على الفور: «أبى النوم والنوم عيا يجيني، على واحد ليتني من هل له، ابي القرب منه وأشوفه بعيني، وهكذا دأبي معه في سنين عمره الأخيرة، فكان يرتاح لي لحفظي معظم قصائده، وقد عرف عنه رغم تمكنه من شعر الغزل شدة إعجابه بشاعر الكويت الكبير سليمان الهويدي، حتى أنه أطلق عليه لقب «دكتور الشعر» ويصفه بأنه مدرسة شعرية قائمة بذاتها، ومطلق نهار مطلق الجبلي المطيري ولد في الجهراء وشب في الجهراء، ومات للجهراء، وواراه ثراها، وودعنا برحيله آخر شعراء الجهراء، البارزين وأبنائها المخلصين، فرحمك الله أبا على وغفر لك وستظل في الذاكرة ما تنفسنا ريح مزارعنا، واترككم في رعاية الله.