عندما تتأمل هذا الشطر من بيت الشعر تظن واهما أنه ضمن قصيدة وعظ وحث على طاعة الله والحقيقة أن الأمر عكس ذلك حينما تتأمل بيت الشعر كاملا فهو يقول:
وانعت الراح على تحريمها
إنما دنیاك دار فانیه
فهو يحث على وصف الخمر وشربها رغم علمه بأنها حرام بنص القرآن الكريم، كأنه يقول: عش ليومك ولا تعبأ بآخرتك وقبل ذلك يقول:
اترك الأطلال لا تعبأ بها
إنها من كل بؤس دانية
دع عنك تذكر ما فاتك من آثار الديار فتذكرها يهيج أحزانك ويثير شجنك، أما الراح فهي مبعث السعادة والفرح ونسيان الهم، والعرب كانوا يشربون الخمر ويفتخرون بشربها حتى نزل تحریمها ومن شدة تعلقهم بها جعلوا لها أسماء كثيرة منها: المدام، القهوة، الرحيق، السلاف، السلافة، الشمول، القرقف، الخندريس، الصهباء، المشعشعة، الحباب وغيرها، وللخمر نصيب وافر عند الشعراء وقد تميز بذلك أبو نواس وهذا في العصر العباسي وقد سبقه شعراء الجاهلية ومنهم عنترة الفوارس والمنخل اليشكري والأعشى الكبير ولبيد وطرفة بن العبد وعمرو بن كلثوم وغيرهم وسبب شهرة أبي نواس في وصف الخمر أنه عاش في عصر التدوين وتأليف الكتب الأدبية، فلم يبق ولم يذر عمن سبقه، فنعت بشاعر الخمرة، وهو الحسن بن هانئ بن الصباح، ولد بالأهواز سنة خمس وأربعين ومئة للهجرة وهو من أب عربي وأم فارسية ورحل أبوه الى البصرة وتوفي فيها وابو نواس صغير فتردد على العلماء وتعلم من الراوية عمرو بن العلاء اللغة والعلم والأدب وكان ذكيا للغاية، ومع ذلك، خالط مجان عصره وخلعاءه، ثم رحل الى بغداد بعد أن تعلم عند أهل البادية، فقال الشعر فدوت شهرته حتى نافس أبا العتاهية فصار شاعر الخليفة محمد الأمين المفضل وعاش اللهو والمجون حتى تاب الله عليه قبيل وفاته وكان لمقتل الأمين أثر كبير في نفسه وآخر ما قاله رحمه الله:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة
فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن
فبمن يلوذ ويستجير المجرم
أدعوك رب كما أمرت تضرعا
فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا
وجميل عفوك ثم إني مسلم
وهو صاحب الأبيات السائرة التي يقول فيها:
إلهنا ما أعدلك
مليك كل من ملك
لبيت قد لبيت لك
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
ما خاب عبد سألك
أنت له حيث سلك
لولاك يا رب هلك
وقد توفي سنة مئة وتسع وتسعين في بغداد. وفي هذا القدر كفاية.