لقد سعى هذا الشاعر سعيا حثيثا وراء كسب المال، فقد سافر إلى دمشق وحمص وأوري شلم، وهي اسم من أسماء مدينة القدس، ولم يكتف بذلك بل قال:
وزرت النجاشي في أرضه
وأرض النبيط وأرض العجم
يالها من رحلة طويلة فقد زار الحبشة في طلب المال ووصل النبيط وهم الأنباط سكان العراق وزار فارس، كل ذلك من اجل المال، لم يترك بلدا إلا وزاره، وبيت الشعر ضمن قصيدة يصف فيها الأعشى الكبير حوارا دار بينه وبين ابنته تلومه على كثرة أسفاره وغيابه الطويل عنها يقول فيها:
تقول ابنتي حين جل الرحيل
أرانا سواء ومن قد يتم
وهنا تلوم أباها وتخبره بأنها واخوتها صاروا مثل الأيتام لطول غيابه عنهم، وتحثه على الإقصار عن هذا السفر الطويل، فنحن واليتيم على حد سواء، ثم يصف الأعشى إصرار ابنته على بقائه عندهم فيقول:
أبانا فلا رمت من عندنا
فإنا بخير إذا لم ترم
وتقول ابنته أيضا إنهم بخير ما دام هو معهم وبينهم، ورمت بمعنى برحت، فلا تذهب فإن ذهابك وسفرك ضياع لنا، ثم يقول على نفس السياق:
ويا أبتا لاتزل عندنا
فإنا نخاف بأن تخترم
وتكرر الابنة رجاءها وتوسلها لأبيها بالبقاء عندهم لأنها تخاف أن يموت في هذه الرحلات الطويلة ويتركهم بلا معيل لهم، فالناس يخوفونهم بذلك، ثم يصف حالة ابنته وهو بعيد عنهم فيقول:
أرانا إذا أضمرتك البلاد
نجفی وتقطع عنا الرحم
والمعنى أنه في حال غيابك عنا لا يسأل عنا أحد، بل ينسانا القريب والبعيد ، وتقطع بنا حبال الوصل، وتتغير معاملة الناس لنا، حتى أن معاملتهم لنا تكون غليظة، وهذا الاستهلال للأعشى إنما هو استدرار لعطف قيس بن معد يكرب ليعظم له الجائزة فالأبيات مقدمة لقصيدة مدح، والأعشى أكثر شعراء الجاهلية طوافا في الآفاق، وهو ميمون بن قيس بن جندل البكري الوائلي أبو بصير، ويعرف بأعشى قیس وأعشى بكر وأعشى وائل وأسرته القريبة قيس بن ثعلبة، ومعنى الأعشى في اللغة الضعيف البصر الذي لا يستطيع أن يرى ليلا، وقد عمي أخر عمره، وقد توفي بعد صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة، وقد كاد هذا الشاعر أن يسلم إلا أن الشقاوة غلبت عليه، وقد لقب بصناجة العرب لانه كان يتغنى بشعره ويوقعه توقیعا حسنا وقد أكثر في شعره من وصف النساء والخمر التي أولع بها وفيها يقول:
ولقد شربت ثمانيا وثمانيا
وثمان عشرة واثنتين وأربعا
من قهوة كانت ببابل صفوة
تدع الفتى ملكا يميل مصرعا
ويعد الأعشى في الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية والحديث عنه طويل وأكتفي بهذا القدر.