هذا الشاعر نادى غراب البين، والغراب نذير شؤم فهو ينعق في الخراب، والعرب تقول أشأم من غراب، لأنهم يتطيرون منه ويعتقدون أنه إذا رأی شملا مجتمعا أنذر بشتاته، والشاعر هنا يخاطب الغراب قائلا له: لماذا تصيح يا غراب البين وتكثر من صياحك؟ إن الشؤم الذي تنذر به وقع فعلا ولكنه بأعدائنا، وبيت الشعر فيه شماتة واضحة وتشف ثم يقول:
إن للخير وللشر مدی
وكلا ذلك وجه وقبل
وهذا بيت حكمة فالخير والشر سيلاقيه الإنسان كل من جهة، وهذا ما لا بد منه، واردف قائلا على نفس السياق:
كل بؤس ونعيم زائل
وبنات الدهر يلعبن بكل
بنات الدهر حوادث الأيام ومصائبه فكل مشقة في هذه الحياة وكل سعادة زائلة فحوادث الأيام لا تترك أحدا في هذه الدنيا كائنا من كان، ويقول:
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
وهنا أراد بالخزرج الأنصار جميعا أوسها وخزرجها والأشياخ الذين تمنى أنهم لم يموتوا ورأوا هزيمتنا لأعدائنا هم قتلى بدر من المشركين، وقد أدركنا بثأرهم وشفينا صدورنا من أعدائنا وهزمناهم حتی جزعوا، وهي أبيات قالها عبد الله بن الزبعرى السهمي القرشي قبل أن يسلم في معركة أحد بعد انتصار المشركين في هذه المعركة، والزبعرى بكسر الزاي وفتح الباء وسكون العين، وكان قبل اسلامه من شياطين قريش وشعرائها المفلقين، والأبيات موجهة الى حسان بن ثابت شاعر النبي عليه الصلاة والسلام، حيث يقول:
أبلغا حسان عني آية
فقريض الشعر يشفي ذا الغلل
فرد عليه قائلا:
ذهبت یابن الزبعری وقعة
كان منا الفضل فيها لو عدل
ولقد نلتم ونلنا منكمو
وكذاك الحرب أحيانا دول
وعلونا يوم بدر بالتقى
طاعة الله وتصديق الرسل
وتركنا في قريش عورة
يوم بدر وأحاديث المثل
وقتلنا كل رأس منهمو
وقتلنا كل جحجاح رفل
ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة خاف ابن الزبعرى أن يقتله فهرب الى نجران قال: محمد ابن عمي خير الناس وأبرها وداري وقومي احب الي فعاد الى مكة فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا ابن الزبعرى ومعه وجه فيه نور الإسلام، فأسلم ونطق الشهادتين ثم مدح النبي بشعره وأظهر ندمه على ما فرط منه وحسن اسلامه. ودمت سالمين.