جريدة الحقيقة الإلكترونية
في صفحات التاريخ دروسٌ وعبرٌ للأجيال؛ حتى لا تقع في الأخطاء التي وقع بها السابقون، وتتعلم كيف تواجه الأحداث المُتصلة بوطنها ومجتمعها، أردت من هذه المقدمة الموجزة أن أعود إلى صحفات كانت مطوية لخصوصيتها، لكن آن الأوان للكشف عنها.
حين تسلَّم الأمير الشيخ حمد بن خليفة حكم قطر في العام 1995، واستقر الأمير الوالد الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، رحمه الله، في أبوظبي كنت في زيارة للإمارات، ويومها طلب مُقابلتي، في مقر إقامته بفندق “إنتر كونتيننتال”، وبعد تناول الغداء، دخلنا إلى إحدى الغرف الجانبية، وكان معنا مدير مكتبه عيسى الكواري، المقرب منه جداً.
إلى اليوم مازلتُ أذكر جيداً الحوار الذي دار بيننا، فقد بدأ الشيخ خليفة، رحمه الله، كلامه بالقول: “أنا التقيت بك ليس من أجل حوار صحافي، والكلام الذي سأقوله ليس للنشر، وأنا أعرف أنك في يوم من الأيام، وإن شاء الله يكون قريباً، ستلتقي سمو الشيخ حمد بن خليفة، وعليك أن تنقل له هذه الرسالة، وهي: “احذر من حمد بن جاسم، فهذا الشخص يحلم بحكم قطر، وسيظلُّ يعمل للوصول إلى ذلك الحلم”.
أعتقد أن حمد بن جاسم علم بهذا اللقاء، وربما بذكاء منه أو خوفاً من أن أكون أحمل رسالة معينة كان يمنعني من الوصول إلى الشيخ حمد بن خليفة، ولذا لم تتح لي الفرصة كي ألتقيه لأنقل إليه الرسالة، التي بقيت طيَّ الكتمان طوال ربع قرن.
اليوم حين ننظر إلى قطر، نرى دولة تسابق الريح في التطور، وبعد التغييرات الجذرية الكبيرة، واختلاف سياستها عما كانت عليه قبل العام 2013، ولا شك أن سبب ذلك الرؤية الحكيمة للأمير الوالد، الشيخ حمد بن خليفة، الذي نقل السلطة إلى ابنه الشيخ تميم بن حمد، الذي عمل فوراً على بدء إبعاد ثعالب حمد بن جاسم من مؤسسات الدولة، فهو إضافة إلى أنه كان رئيساً للوزراء تولى وزارة الخارجية، ما جعله يتحكم بكل صغيرة وكبيرة، وحينها بدأ يعمل على تنفيذ حلمه، الذي تحدث عنه الراحل الشيخ خليفة بن حمد.
كاد حلمه بالهيمنة على قطر يتحقق، بل أخذه خياله الواسع إلى البعيد حين تطلع للسيطرة على بعض الدول العربية، ولذلك أنفق، وفقاً لتقارير عالمية عدة، نحو 140 مليار دولار على التدخل في شؤون الكويت والسعودية والبحرين وتونس ومصر وسورية، وكشفت التسجيلات المُسربة لحواراته مع القذافي بشأن تقسيم السعودية، واتصالاته الهاتفية بعدد من الشخصيات البحرينية أو الكويتية لتحريضها على نظامي بلادهما كما كان خياله واسعاً، وسعيه جاداً في هذا الشأن.
ولأن أحلام البعض تكون أكبر بكثير من إمكاناتهم فقد تبخرت مُخططاته سريعاً، ورغم عزله من منصبه حاول الاستمرار بالتأثير على مسار قطر، ولهذا كانت مُهمة الأمير الشيخ تميم بن حمد في بداية حكمه شاقة لأن تلك الثعالب كانت مُتغلغلة في مؤسسات الدولة.
لقد عمل الأمير تميم بصبر كبير، وحنكة في مقاربته للأمور، وأول خطوة جبارة أقدم عليها هي وقف النزيف العبثي من المال العام القطري الذي كان يُنفقه الثعالب على المؤامرت في الخارج، ووجهه إلى خدمة شعبه ما رفع متوسط دخل الفرد السنوي إلى نحو 145 ألف دولار، وهو الأعلى في العالم.
مع بداية الأزمة بين الدول الأربع وقطر، اتصل بي أحمد فهد الفهد مدير مكتب الأمير الشيخ صباح الأحمد، وسألني: أين أنت؟ فقلت: في إسبانيا. فقال صاحب السمو يريد التحدث إليك، وأذكر جيداً كلام سموه، رحمه الله، وتحدثه بكثير من الود، إذ قال: “يا أحمد، إحنا قاعدين نلم شمل دول الخليج، وأنتم بالإعلام تتكلمون بما يزعج الوساطات، ويوتر الوضع، وبلاش هذا الحجي، فقطر عضو بمجلس التعاون ولن تخرج منه، والأمير تميم ابن هذا المجلس”.
لقد كان سموه، رحمه الله، على قناعة تامة بأن ما جرى في قمة العلا لن يكون بعيداً، إنما الأمور تحتاج إلى صبر وتأنٍّ، وبالمناسبة فإن الاتصالات بين الشيخ صباح وتميم بن حمد كانت شبه يومية، ولم تنقطع يوماً، فالأمير الراحل كان يُكن كل المحبة للشيخ تميم بن حمد ويعتبره من أولاده، بل إن أسرة آل الصباح تُكن محبة واحتراماً وتقديراً كبيراً لأمير قطر.
إن المودة والتقدير الكبير للأمير الشيخ تميم بن حمد لا تقتصر على الكويت، بل إن للرجل مكانته ومحبته لدى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وكذلك قادة الإمارات، وبخاصة الشيخ محمد بن راشد والشيخ محمد زايد، ولقد دلَّت الحفاوة التي استقبل بها في العلا على كل ذلك، ولهذا رأى الجميع أن تلك القمة جعلت من الأزمة مجرد سحابة صيف.
لا نكشف سراً إذا قلنا: إن وقف تدخلات حمد بن جاسم وثعالبه، كان ثمنُها باهظاً، لكن بفضل العمل الدؤوب للشيخ تميم بن حمد نجح في إيصال بلاده إلى بر الأمان وتخليصها من مخالب الثعالب، كما عمل بروية وحنكة على إعادة الأمور بين الأشقاء إلى نصابها الصحيح، ولقد ظهر ذلك جلياً في قمة العلا، وهو ما سيذكره التاريخ له.
