الناظرُ إلى حال العالم العربي اليوم يرى أمة لا تتعلم من تجاربها، ولا تقرأ تاريخها رغم أنها أُمرت بالقراءة من ربِّ العالمين، سبحانه وتعالى، لذلك هي تعيش في ضياع، يأكل الفسادُ دولَها، وكأني بها تطبق حرفياً ما ورد في مقدمة عبدالرحمن بن خلدون في العام 1377، عن انهيار الدول.
لم يكن الرجل قارئ غيب أو ضارب مندل، إنما كان عالماً بأحوال الناس والمجتمعات، مستفيداً من علوم عصره، التي لو استمرت في التطور عربياً لكانت حال العرب مُختلفة تماماً، لكنَّ المجتمعات الجاهلة، تحفر قبورها بأيديها.
كتب ابن خلدون قبل سبعة قرون: “عندما تنهار الدول يكثر المنجمون، والمُتسوِّلون، والمنافقون والمُدَّعون والكتبة والقوالون والمغنون النشاز، والشعراء النّظامون، والمُتصعلكون، وضاربو المنّدل، وقارعو الطبول والمتفقهون، وقارئو الكف والطالع والنازل، والمُتسيّسون والمدّاحون والهجاؤون وعابروا السبيل والانتهازيون.
يسودُ الرعبُ ويلوذ الناس بالطوائف، وتظهر العجائب، وتعمُّ الإشاعة، ويتحوَّل الصديق إلى عدو، والعدو إلى صديق، ويعلو صوت الباطل ويخفق صوت الحق، وتظهر على السطح وجوهٌ مريبة وتختفي وجوه مؤنسة وتشح الأحلام، ويموت الأمل، وتزداد غربة العاقل، وتضيع ملامح الوجوه، ويصبح الانتماء إلى القبيلة أشد التصاقاً، وإلى الأوطان ضرباً من ضروب الهذيان، ويضيع صوت الحكماء في ضجيج الخطباء والمزايدات على الانتماء ومفهوم القومية والوطنية والعقيدة وأصول الدين، ويتقاذف أهل البيت الواحد التّهم بالعمالة والخيانة، وتسري الإشاعات عن هروب كبير وتحاك الدسائس والمؤامرات، وتكثر النصائح من القاصي والداني، وتطرح المبادرات من القريب والبعيد، ويتدبر المُقتدر أمر رحيله، والغني أمر ثروته، ويصبح الكلُّ في حالة تأهب وانتظار، ويتحوَّل الوضع إلى مشروعات مهاجرين، يتحول الوطن إلى محطة سفر والمراتع التي نعيش فيها إلى حقائب، والبيوت إلى ذكريات والذكريات إلى حكايات”.
منذ قرن بالتَّمام والكمال رسب العرب في امتحان الدولة، إذ بدلاً من بناء المؤسسات انشغلوا في حياكة المؤامرات ضد بعضهم بعضاً، وكانوا بذلك يعيدون تجربة الأندلس التي ضاعت في الصراع بين أمراء الطوائف، وسعي العباسيين إلى الإطباق على الدولة الأموية، ومنذ ذلك اليوم دخلت الدول العربية متاهات الانقلابات والثورات، والحروب الأهلية، واستقوى بعضُها بالعدو على الشقيق، وارتفع صوت الطائفيين على صوت الوطن، وتحوَّلت المؤسسات مزارع للمسؤولين، لذا لم تستطع أيٌّ منها النهوض، عندما سمحوا بتسيد المتفيقهين المشهد.
من هؤلاء بعض الذين أتيحت لهم فرصة أن يتولوا مناصب عليا في بلادهم، فعملوا على تنفيذ أحلامهم المريضة وراحوا ينقفون أموال بلادهم في تخريب دول شقيقة وصديقة، كما حدث خلال ما سُمِّي “الربيع العربي”، الذي تصدَّره حمد بن جاسم، فأنفق 140 ملياراً على هذا المشروع التخريبي، مُستقطعاً منها ثروة شخصية بلغت نحو 35 مليار دولار، حاول أن يستثمرها في القبض على السلطة في حكم بلاده ودول الجوار، فهؤلاء المتاجرون بالسياسة لا يرون إلا مصالحهم الخاصة، ومنهم من اتخذ التطرف طريقاً لتحقيق أهدافه، مثل “الإخوان المسلمين” الذين يعيشون على أزمات الدول.
لو كانت الأنظمة التي انغمست في لعبة السيطرة، منذ بدأ عبدالناصر يُسوِّق للانقلابات في خمسينات القرن الماضي، أنفقت المليارات على مشاريع منتجة في الدول المحتاجة، بل في كل العالم العربي، بدلاً من الاستعراضات لكان العرب اليوم في أعلى مراتب التقدم.
لقد خاضوا مغامراتهم الفاشلة، وقدموا الانتهازي والفاسد على الصديق والمخلص، فيما ارتمى بعضهم في أحضان الأعداء، بل عمل لديهم خادماً رخيصاً، كما هي حال “حزب الله” وجماعة الميليشيات الإرهابية المأجورة لإيران.
صحيحٌ أنَّ حال العرب لا تسرُّ، لكنَّ الأملَ موجودٌ دائماً، فكما يتيسر للدين رجل كل مئة عام ينقذه، أيضاً يتيسر للدول كل قرن رجل بأمة يُخرجها من المتاهة، وعسى أن يكون ذلك قريباً، لكن قبل كل شيء لابدَّ أن يقرأ بعضُ حكامنا في الخليج التاريخ جيداً ليُدركوا دورَهم، لهذا فإنَّ أقصى الأمنيات أن يقرأوا مقدمة ابن خلدون، ويتفكروا فيها، هذا إذا كانوا أصلاً يعرفون من هو ابن خلدون، أو سمعوا به.