لا شك أن النظام القبلي أو المشيخي هو شكلٌ بدائيٌ من أشكال التجمع البشري وهو نظام رجعي كما هو معروف ولا يتناسب مطلقاً مع تطور الحضارة، والرجوع إلى هذا النظام في القرن الواحد والعشرين هو ضربٌ من الجهل ودليلٌ على سذاجة هذا التجمع البشري، ولكن ليس دائما ما تنحو الأمور على هذا النحو، فالنظام يصبح نظاماً إذا تمت البيعة له والتأييد من المجتمع على أي شكلٍ من الأشكال ودامت الثقة بين النظام والمجتمع ، والأمم أو التجمعات البشرية تفرز النُظم التي تتناسب مع قدراتها وحاجاتها ورؤيتها للمستقبل، وإن النظام الذي لا يتناسب مع القدرات والحاجات والرؤية المستقبلية لشعب ما هو نظامٌ محكومٌ عليه بالفشل مهما كان هذا النظام متسقا وجميلا، فإن تكرر فشل النظام لعدة عقود فسيفرز التجمع البشري عادةً فكرة الرجوع الى أقرب نظام عهدوه لعلمهم المسبق به ورضاهم بالنجاح المحدود مقابل الفشل المتكرر.
نحن في شرق العالم العربي وفي الكويت تحديداً حديثو عهدٍ بمدنيّة فقد كنا قروين حتى منتصف القرن العشرين ويحيط بنا سورٌ من طين يحمينا من هجوم القرى المجاورة الحالمة بالتوسع وبعض القبائل الطامعة حتى جاء الإنجليز وتوسعت الكويت بحدودها المسوّرة إلى حدودها في الخريطة الآن، وأصبحت الكويت بعدئذ مدينةً تظهر فيها أشكال الحضارة الحديثة ، ولكن الكويت لم تتوسع لتضم أراضٍ جديدة باتساعها الجغرافي ولكنها ضمت القبائل التي كانت تسرح وتمرح في الصحراء من غير قيد او التزام، والقبائل المحيطة في الكويت لم تكن توالي غير مصالحها؛ ولها شكلٌ من أشكال التجمع البشري البدائي ولها شيوخ لجمع الشمل وشيوخ مقسمين حسب الأفخاذ (الفروع المنحدرة من القبيلة)، وقد كان نظام القبائل ناجحاً في كونه نظاماً وذلك لتوافر البيعة فيه وإن كانت قسريةً أحياناً ودوام الثقة ولتناسبه مع القدرات وتلبية الحاجات ورؤية المستقبل المحدودة جداً، وحينما أُجبرت القبائل بدخولها إلى المدنية ( وأقول أجبرت لعدم توفير النظام لهم خيارا آخرا يتناسب معهم فكان هذا بمثابة الإجبار) من غير دراسة كافية وواعية لأغراض سياسية واقتصادية وشخصية أيضا بدلاً من جعلهم متكيّفين في أوساط بيئتهم وبعيدين عن المجتمع المدني حديث النشأة، ظهر لنا هذا الصراع بين الانسان المدنيّ (وأقول مدني مجازاً بدلا من قروي) والانسان القبليّ ، وأخذ هذا الصراع أشكالاً عديدةً حتى بلغ النكت، ففي الأوساط المدنيّة يكون الاستخفاف بعقل الانسان القبلي وبمظهره ، وفي الأوساط القبلية يكون الاستخفاف بميوعة الانسان المدنيّ وجهله بالأعراف العربية، والغريبُ في الأمر أنّ هذا ظل قائما حتى يومنا هذا في الوقت الذي يُفترض أن تكون القبلية نظاما نقرؤه في كتب التراث ولا نرى له وجوداً في أرض الواقع وخصوصا مع تمدّن الانسان القبليّ تماماً في مظهره ومسكنه ودراسته.
النظام المدنيّ الذي نشأ في الكويت كان مستورداً بقليل من التعديلات، والذي استورده كما هو معلوم هم بعض التجّار الذين كانوا بارعين في استيراد البضائع من الدول البعيدة وتصريفها في الكويت، ولم يكن هذا النظام المدني الحديث ناشئا من المجتمع الكويتي نفسه، ولذلك كانت حلول هذا النظام غير منسجمة مع المشاكل المطروحة، مما اضطر الدولة لرجوعها أحيانا لتظهر بشكل المشيخة أي ما قبل ظهور المدنية (حينما كان مجتمع لا يزال ملتزما بالبيعة للنظام المشيخي ولتوافر الثقة فيه عن من سواه) لإصلاح بعض الأخطاء التي لا يستطيع النظام المستورد إصلاحها، وهذا ما أشرنا إليه في مقدمة المقالة إلى الرجوع للنظام المشيخي للعلم المسبق به ولأن فرصة نجاحه أفضل من هذا النظام المستورد وذلك في كونه مفروزٌ من الأرض ومتناسبٌ مع القدرات ويلبّي الحاجات ويحقق الرؤية المستقبلية بخلاف ذلك النظام المستورد وهذا ما تثبته دول الخليج اليوم في كونها ناجحة نجاحاً محدوداً مع كونها لا تزال دولاً غير ديموقراطية.
الدعوة هنا ليست للرجوع إلى أشكال التجمع البشري البدائيّ كالنظام القبليّ وليست كذلك للعودة للنظام المشيخي ولكنها دعوةٌ للتعامل مع المشاكل المطروحة بجديّة ومن الداخل ومواجهة تحديات المدنيّة وتطوير النظام لما يتناسب مع البيئة، وما يجعل أيّ قبيلة ترجع إلى أمير شملها هو أمرٌ يُنظر له بأن القبيلة بدأت في نبذ النظام المدنيّ والرجوع إلى النظام القبليّ الذي ليس عنهم ببعيد، وليس لهذا من سببٍ إلا كما أشرنا مسبقاً بانعدام استمرار الثقة بين النظام والمجتمع مما أدى إلى انحسار الانتماء الوطني، ومن هنا يكون دور الساسة في استرجاع الثقة التي ساهمت الاحداث الماضية في إعدامها بسبب الشعور بعدم تطبيق القانون على الجميع، وتتجلى أهمية تطبيق القانون على الجميع كائنا من كان في ما نص عليه معلمنا حين قال «إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد» وهذا ما يشعر به على أقل تقدير جميع من كان يراقب الاحداث وليس ما يشعر به المعارضة فقط، ومن هنا ندعو بكل صدق وأمانة بالمسارعة لكسب الثقة شبه المفقودة وبحلول جذرية غير ترقيعية، وهذا لا يكون في الأغاني الوطنية الجوفاء أو بالخطب المنمقة أو بترضيات المناصب القيادية لبعض وجهاء القبائل، ولكن عن طريق تطبيق القانون على الجميع و كما قال الأول “الظلم بالسوية عدلٌ في الرعية” لنتفادى جميعا ما لا يحمد عقباه من اختلال النظام وهلاك الحرث والنسل، وفي الختام وحفظ الله الكويت وأميرها وشعبها من كل مكروه.
فيصل السنافي