لم يكن أشد المتشائمين يتخيل منذ عقدين مثلاً أن يصل الوضع بـ«لؤلؤة الخليج» الكويت إلى ما وصلت إليه من انحدار وإصرار على تشويه معظم ملامح الجمال، والإمعان غير العادي في انتهاك القانون، الذي صار كسره مدعاة لتباهي البعض، بأن له واسطات ومحسوبيات يمكنها أن تفتح له الأبواب المغلقة وأن تمحو له ما لا يُمحى من الأخطاء المتعمدة والمتكررة، وكذلك الحال بالنسبة لعدم احترام النظام العام.
قد ينادي البعض بضرورة إصدار قوانين رادعة، غير أن الحقيقة والواقع يؤكدان أن القوانين موجودة وكافية لكنها ليست مفعَّلة ولا تُطبق في أحيان كثيرة، لأن مَنْ له واسطة يمكنه بمجرَّد اتصال قصير أن يضع ذلك القانون في شباك المحسوبيات والواسطات والقرابة، ويصبح بحُكم العدم، مما يشجع المخالف على تكرار مخالفاته، ويشجع غيره على أن يحذو ذلك الطريق السحري الذي يضع مَنْ يمشي فيه فوق الجميع، حتى وإن أخطأ متعمداً… وتلك هي المأساة التي تدفع الكويت ثمنها غالياً على مرأى ومسمع من الجميع.
لعل أغلبنا لم يسأل نفسه: كم مرة تجاوزت القانون أو آداب النظام العام؟ ولماذا كسرته؟ هل سأتوقف أم سأستمر في السير عكس الاتجاه؟ أسئلة مهمة لكن الأهم من يجرؤ على توجيهها لذاته؟ وإذا وجهها فما موقفه وقتها؟ وهل سيعود للطريق الصحيح؟ أم سيستمر في الطريق ذاته؟
الواقع يقول إن المشكلة منا وفينا، نخالف النظام العام وآدابه، نلتف على القانون تارة، ونكسره تارة أخرى، نجيد لغة الانتقاد الحادة لغيرنا، نرى بعين واحدة خطايا الآخرين، ولا نرى بالأخرى ما نقوم به من مخالفات.
وإضافة إلى عدم تطبيق القانون، أو الرغبة في تطبيقه على الغير فقط، هناك مشكلة اخرى تكمن في غياب المؤسسات المؤثرة في حياة الفرد، وفي مقدمتها الأسرة، التي كانت تعلِّم النظام وتربي على النظافة والالتزام واحترام القانون، فهذا الطفل الذي يتعلم منذ نعومة أظفاره احترام القوانين والحفاظ على بلاده لن تجده يوماً يلقي بقمامته في الشارع أو يكسر إشارة مرور، أو يتشابك بالأيدي في الشوارع مُستخدماً الأسلحة البيضاء والألفاظ غير اللائقة، وبالتأكيد سيكون عنصراً فاعلاً في مجتمعه، وستغيب حوادث العنف اليومية عن صفحات الصحف وفيديوهات مواقع التواصل الاجتماعي.نعم من الصواب أن نلوم المسؤول الذي يتطاول على المال العام أو الموظف الذي يهمل في أداء واجبه، لكن علينا كذلك أن نكون قدوة في كل سلوكياتنا وممارساتنا وأعمالنا، حتى نغيِّر بلادنا إلى الأفضل، وقديماً قال شاعرنا العربي: «لا تنه عن خلق وتأتي مثله… عار عليك إذا فعلت عظيم».
ملفات متخمة
عندما طرقت «الجريدة» الباب الصعب وفتحت ملفات مخالفات القانون والنظام العام من كل أبوابه، وجدت عند عتبة كل باب مصيبة تستغيث منها تقارير الجهات الرقابية المتخمة بتجاوزات المسؤولين، إلى جانب سلوكيات لا تليق من بعض الناس، من مواطنين ومقيمين، والشارع خير شاهد عليها، وما خفي كان أعظم.
بالعين المجردة يمكنك أن تأخذ جولة بسيارتك وتمرُّ على صناديق القمامة، فستجد النفايات والفضلات ملقاة بجانب سلال المهملات الفارغة في مفارقة غير مفهومة، وإذا كنت تدخن سيجارة وحافظت على نظافة الشارع ولم ترمها، فقد تجد آخر فعلها، فتتشجع لتقليده، أو ربما يصادفك مَنْ يلقي بزجاجة مياه أو علبة مياه غازية أو «كيس شيبسي».
وإذا كان لديك معاملة في جهة حكومية، فعليك أن تتجرَّع مزيداً من كؤوس الصبر، فقد لا تجد الموظف في مكتبه، أو تجده قد قدَّم إجازة مرضية أو «تمارضية»، أو أنه بصم وذهب إلى حال سبيله، أو «ما له خلق» للعمل اليوم!
أما إذا سمعت صوت المؤذن، وذهبت إلى المسجد للصلاة، فحدِّث ولا حرج عن حال أحذية رواده أمام أبوابه، في حين يغطي التراب الأرفف والخزائن التي خصصتها إدارة المساجد للأحذية، ولا تحدق بعينيك كثيراً عندما ترى الإسراف في استخدام ماء الوضوء ومناديل التنشيف ومعطرات الملابس بعدها.
وإذا ركبت سيارتك فعليك ألا تُفاجأ من تجاوز قائد سيارة الخطوط الأرضية أو عدم ربطه حزام الأمان أو اتجاهه عكس السير أو وقوفه في الممنوع أو في موقفك الخاص بمنزلك، لأنك بالتأكيد ارتكبت واحدة من كل هذه المخالفات أو أكثر يوماً ما.
سر التقدم
وبعد تأملك لهذا كُله وأشباهه الكثير والكثير جداً، لا شك أنك ستصل إلى سر تقدم الغرب الكامن وراء احترامهم للقانون، الذي يربون على تقديره وعدم تجاوزه منذ نعومة أظفارهم، لأنه يرونه أمامهم يطبق على الجميع بمسطرة واحدة، من دون نظر إلى أي حيثيات.
وفي مجتمعاتنا العكس تماماً هو الواقع، إلا مَنْ رحم ربي، إذ بات الملتزم بالقانون محلاً للتنمر من كاسره، لأن مَنْ أمِن العقوبة أساء الأدب، لذا أضحت المخالفات السمة الغالبة.
الأمثلة كثيرة على المخالفات، لكن دعونا قبل الاستطراد في مخالفات الأفراد نلقي نظرة سريعة على بعض مَنْ يفترض عليهم حماية القانون. فوفق تقرير لديوان المحاسبة حصلت «الجريدة» على نسخة منه، بعد أن تشجع مصدر مسؤول به لموضوع التحقيق، تبيَّن أن عدد مخالفات سيارات «الداخلية» وحدها بلغ 40589 مخالفة في 6 سنوات!
ولأن الكويت دولة دستور وقانون تتمتع بسقف عالٍ من الحريات، فمن الواجب على الجميع؛ حكومةً وشعباً ومقيمين، العمل على إعادتها «عروس الخليج»، وهذا ما يفترض على حكومة وشعب كل دولة وكذلك المقيمين على أراضيها.
لكن هناك صوراً في الشارع نقلتها عدسة «الجريدة»، حيث رصدت مخالفات كبيرة للقانون والنظام العام، مما يستدعي التوقف عندها ووضع الحلول الجذرية لها.
وفي سؤال من «الجريدة» لأحد الأشخاص: لماذا وضعت حذاءك أمام باب المسجد ولم تضعه في مكانه؟ وبعد أن أخرجت له الهوية الصحافية، ونزولاً عند رغبته بعدم تصويره أو ذكر اسمه، أقر بخطئه، بعد أن قال: «معك حق، لكنني أضعها هنا بحسب ما اعتدت».
مستشفى جابر صرح طبي ومَعلم خليجي كبير، لكن الصورة أمامه غير مثالية، فترى سيارات تقف في الممنوع، بينما مبنى المواقف الضخم المجاني أغلب مواقفه شبه خالية.
وعلى المستوى النيابي، غابت قضية عدم احترام القانون والنظام العام عن أنشطة النواب، ورغم تفاخر المجلس الحالي بأنه الأكثر تقديماً للأسئلة، فإنه لم يوجه سوى سؤال واحد من النائب د. حسن جوهر إلى وزير الداخلية آنذاك الشيخ ثامر العلي في 21 أبريل 2021، وتضمن استفسارات بشأن الحوادث المرورية وحوادث السير والمخالفات المرورية منذ 1 فبراير 2018.
ورغم أن الأرقام كانت صادمة، حيث بلغت قضايا التصالح للحوادث المرورية، وفق ما ورد في الإجابة التي اطلعت «الجريدة» على نسخة منها، في عام 2019 وحده 57589 قضية، إلا أن النائب اكتفى بها، ولم يوجه سؤالا جديدا عما اتخذته أو ستتخذه الوزارة من إجراءات.
مَنْ يجرؤ؟
وروى لي الكثير من الأصدقاء، بينهم الزميل الصحافي علي الصنيدح، ملاحظاتهم عند زيارتهم للسعودية سابقاً، من عدم وجود احترام كبير لقانون المرور، لكنهم في زياراتهم الأخيرة وجدوا أنه لا أحد يجرؤ على كسره، فبات الكل يطبق القانون بحذافيره، والسبب – وفق ما بيَّن لهم أصدقاؤهم السعوديون – تطبيق سياسة الحزم مع المتجاوزين.
وأضافوا أن باقي الخليجيين في السعودية كذلك باتوا يلتزمون بشدة بالقانون، خصوصاً بعد تطبيق قرار عدم السماح بمغادرة أحد المملكة إلا بعد دفع ما عليه من مخالفات، وهكذا الحال بالنسبة للإمارات، وعليه لم يعد هناك مَنْ يجرؤ على الوقوف في الممنوع أو بعد انتهاء زمن تذكرة الوقوف أو عدم ربط حزام الأمان، حيث إنه لا تهاون هناك في تطبيق القانون.
مقيم من جنسية عربية، طلب عدم ذكر اسمه، سألته: «هل ألقيت يوماً مهملات من نافذة سيارتك؟»، فأجاب: «نعم، لكن في الباركينغ، أما في بلدي، فألقي بها في أي مكان، لأن الكل يفعل ذلك»، وعندما سألته: لماذا؟ فاجأتني إجابته: «لأن هناك بلدية تنظف!».
وحتى تعود الكويت درة الخليج واجب علينا جميعا؛ مواطنين ومقيمين، أن نلتزم بالقانون، ونحافظ على نظافتها وجمالها، وأن تحرص الدولة على غرس احترام القانون والتحلي بالآداب والنظام العام منذ الصغر.
مكافأة المخالفين!
أستاذ القانون الدولي بكلية الحقوق د. سامي الدريعي يقول لـ «الجريدة»، إن احترام القانون يرجع بالدرجة الأساس لما يتمتع به القانون من قوة ومن جزاء. نعرف أن القاعدة القانونية يجب أن تضمن الجزاء الرادع، حتى يلتزم المخاطب به بعدم مخالفته، ويشعر بأنه تحت سيفه. أما إذا كانت عقوبته غير رادعة، فقد يكون مكافأة للمخالفين، فإذا كانت عقوبة اختلاس مليون دينار، على سبيل المثال، الحبس سنتين، فقد يضحى ضعيف النفس بحريته عامين مقابل المبلغ، وهنا يعتبر العقوبة مكافأة له.
وشدد الدريعي على أن شعوب الدول الغربية ليست أكثر احتراماً منا للقانون، لكن هناك القانون يطول الجميع ولا أحد فوقه، ونشأ الفرد هناك منذ نعومة أظفاره على ثقافة الردع والزجر، فيلتزم خوفاً من سطوته، لا مجرد احترام له، ويجب أن نسارع في غربلة القوانين، وجعل العقوبات رادعة، وتطبيق القانون بمسطرة واحدة على الجميع.
أما مخالفة النظام، مثل وضع الأحذية في غير المكان المخصص أو رمي قمامة بالشارع، فتعود بالدرجة الأولى إلى قاعدة الأخلاق، وهي قاعدة تنظيمية تسهم في تنظيم المجتمع، ويجب غرس القيم النبيلة في الأطفال، حتى تجد مجتمعاً ملتزماً بالآداب العامة وعدم مخالفة النظام العام.
أخيراً، وليس آخراً، واجب على كل رب أسرة تربية أبنائه التربية الحسنة، وغرس احترام القانون والنظام فيه منذ الصغر، وعلى الحكومة مسؤولية كبيرة في تثقيف المجتمع بالقانون والآداب والنظام العام، وأن تكون مادة أساسية في مناهج وزارة التربية. كذلك واجب على المجتمع المدني، عبر جمعيات النفع العام، المشاركة في حملة التوعية، حتى نرى كويتنا التي نحبها في أجمل صورها، وتكون نموذجاً يضرب به المثل، عربياً وإقليمياً ودولياً.