د. علي بن تميم
خلال الأيام الماضية، جرى تداول مقطعي فيديو يرصدان موقفين للشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التسامح والتعايش نائب رئيس مجلس أمناء جامعة أبوظبي، خلال حضوره حفل تخرج الدفعة الـ16 لجامعة العين. الموقف الأول كان عندما أعطته إحدى الخريجات “طلباً” في ورقة وهي تتسلم شهادة تخرجها، فوضع “الطلب” في جيبه في حرص منه على الاطلاع عليها لاحقاً.
أما الموقف الثاني فكان عندما أراد أن يعلم خريجة درساً في احترام التقاليد والبروتوكول الجامعي، كجزء من دوره كمسؤول وإنسانٍ وأب.
الموقف الأول لم يتداوله إلا قلّة، وليس مطلوباً من أحد أن يتداوله، فمثل هذه المواقف الإنسانية السامية تعوّدنا عليها من شيوخ الإمارات، وهي جزء من فطرتهم وأخلاقهم وقيمهم الرفيعة، فهم لا يتركون ملهوفاً داخل البلاد أو خارجها إلا أغاثوه وأعانوه ودعموه وساعدوه حتى يتجاوز محنته. لكن عند مقارنة عدم الإضاءة الإعلامية على هذا الموقف بـالحملة الإعلامية المكثفة التي قادتها حسابات وقنوات معروفة انحيازاتها ولم تتوقف يوماً عن مهاجمة دولة الإمارات متجاهلة كل اتفاق، باستخدام الموقف الثاني للهجوم على دولة الإمارات وعلى وزيرها، فإننا هنا إزاء حالة من التصيد لموقف لا يستدعي حتى التوقف عنده، لأنه لم يصدر إلا من أب مسؤول أراد أن يعلم ابنته والأجيال الجديدة بأكملها درساً في معنى الهوية واحترام التقاليد.
فهم قاصر
اتخذ المهاجمون المغرضون من كون معالي الشيخ نهيان بن مبارك وزيراً للتسامح مادة للتهجم، والحقيقة أنهم يستحقون السخرية من فهمهم القاصر لمفهوم التسامح، فالتسامح لا يعني التسيب أو التساهل أو تجاوز الإرث الأخلاقي والأدبي، بل هو مسؤولية واتخاذ موقف إيجابي وله ضوابط وضمانات، هو بحسب الفيلسوف الشهير جون لوك يجب “ألا يتنافي مع الأخلاق الطيبة العامة والمشتركة داخل المجتمع”.
وإذا كان الشيخ نهيان قرر أن يلفت نظر خريجة إلى ضرورة احترام هذه المنظومة الأخلاقية، فهو يفعل هذا في إطار دوره كوزير للتسامح، ودوره كمسؤول عن التربية، إذ شغل من قبل مناصب وزير التعليم العالي والبحث العلمي ووزير التربية والتعليم ووزير الثقافة وتنمية المعرفة. ويدرك اهتمام دولة الإمارات ببناء الطالب، الذي سيكون قائداً ورائداً في المستقبل، معرفياً وتربوياً سواء عبر التقاليد المتوارثة “السنع” التي تحض على احترام أفراد المجتمع لبعضهم بعضاً، أو عبر منظومة التعليم، التي تشهد كل يوم تأكيداً على هذا المعنى، ولعل آخرها إطلاق “الميثاق المهني والأخلاقي للعاملين في مؤسسات التعليم العام”، والذي يركز على الجانب الأخلاقي في تنشئة الطلبة.
جناحا الحضارة
إن دولة الإمارات في سعيها لتأسيس مجتمع المعرفة، والارتقاء بالتعليم عبر تخريج طلبة ينافسون غيرهم في كبريات الجامعات في العالم، لم تنس الجناح الثاني للحضارة بالإضافة للتعليم وهو التربية، وقد سبق وأن أكد الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله، أكثر من مرة مكانة القيم الفاضلة في بناء الأمم ونهضتها ورقي الشعوب وتطورها، وأنه مهما بلغت الدول من تقدم علمي ومعرفي وتقني فإن ديمومة بقائها مرهونة بمدى محافظتها على قيمها النبيلة وتمسكها بمبادئها السامية لتواصل طريقها نحو بناء حاضرها ومستقبلها، وقال سموه إن “دولة الإمارات العربية المتحدة تتميز بهويتها الثقافية وقيمها الأخلاقية الأصيلة المرتكزة على موروث القيم النابع من تعاليم الدين الحنيف وتقاليد الآباء والأجداد التي تعلي من قيم التسامح والاحترام والتعاون وحب الخير والانتماء والبذل والتضحية والعطاء اللامحدود للوطن”.
إن احترام العادات والتقاليد و”السنع” لا يتناقض مع التسامح، بل يتكاملان، ليؤكدا حقيقة هوية دولة الإمارات القائمة على امتزاج الأصالة والمعاصرة، والتعايش واحترام الآخر كجزء من رسالتها الإنسانية واستراتيجيتها السامية لاستعادة الحضارة.
ثمة دروس كثيرة مستفادة من الموقفين المذكورين في بداية هذا المقال، لكني سأكتفي بذكر اثنين، الأول: أن قادتنا هم قدوتنا، وهذا ما رأيناه في رد الفعل الأبوي للشيخ نهيان بن مبارك، من إشارة لضرورة أن نتمسك بـ”السنع” فهو الطريق للرقي والتقدم. أما الدرس الثاني فهو أننا أصبحنا نعرف المتربص مهما بدّل من وجوه، ففي مثل هذه المواقف تسقط الأقنعة، وكما قال أبو تمام:
واعْذِرْ حَسُودَكَ فيما قد خُصِصْتَ به
إِنَّ العُلَى حَسَنٌ في مِثْلِها الْحَسَدُ