كانت الحاجة لقيام مجلس التعاون لدول الخليج العربية حاجة أمنية- دفاعية واستراتيجية بالدرجة الأولى. ومنذ قيام المجلس في القمة الخليجية الأولى في أبوظبي عام 1981، بقي هدفه الاستراتيجي مواجهة التهديدات الأمنية التي تكاثرت وتنوعت وتمددت. ولتحقيق توازن قوى إقليمي يوازن القوى الإقليمية الكبيرة في منطقة الخليج العربي. د
وكذلك تعضيد وحماية دول المجلس بوجه عام، وكذلك التحديات بالمنطقة التي تمثلت بسقوط نظام شاه إيران واندلاع الثورة الإيرانية والتهديد بتصديرها، والحرب العراقية الإيرانية، والغزو السوفييتي لأفغانستان، واتفاقية كامب ديفيد وخروج مصر وتعليق عضويتها في جامعة الدول العربية بتحريض من عراق صدام حسين الذي شعر بأن عراقه مهيأ لقيادة النظام العربي. فكانت حربه مع إيران التي دفعت دول المجلس قبل تشكيله لأن تأخذ طرفاً في الحرب مع العراق، وخاصة بعد تهديد القيادة الإيرانية الجديدة بتصدير الثورة واستهداف المنشآت وناقلات النفط الكويتية والسعودية.
وحسب «نظريات التحالفات» Alliance Theory يحب أن يحقق التحالف الأمني مكاسب تعزز أمن دوله بتوفير قيمة مضافة للأعضاء. وعلى الأعضاء إبداء مرونة حول سيادة دولهم دون تنازلات، وتعزيز التنسيق والتعاون الأمني والدفاعي وصولاً لتشكيل حلف يردع، ويوازن الخصم الإقليمي.
بعد أكثر من ثلاثة عقود على قيام مجلس التعاون الخليجي، لم يحقق المجلس الأهداف الاستراتيجية والأمنية التي أنشئ من أجلها لعدم قدرته على إيجاد توازن يمنع ويردع عراق صدام حسين من احتلال الكويت، ويضمن لاحقاً تحريرها دون الاعتماد على تحالف عالمي بقيادة الولايات المتحدة. كما أن مجلس التعاون على رغم الاتفاقيات العسكرية والأمنية بين أعضائه الستة لم يكن يملك القدرة على منع وردع إيران من التغول والتدخل في الشؤون الخليجية والعربية. ولهذا تتحرك إيران دون رادع لتنفيذ مشروعها التوسعي للهيمنة على المنطقة.
واستمرت دول المجلس في الاعتماد بشكل أكبر على الأمن المستورد لخلق توازن قوى إقليمي مصطنع بدعم أميركا المتقلبة والمتذبذبة التي بدت في ظل إدارة الرئيس أوباما اليوم أكثر تقارباً مع إيران على حساب حلفائها الخليجيين القلقين، الذين يملكون خيارات محدودة. ثم أتت عاصفة الحزم التي قلبت الموازين والحسابات.
وتعمّق الخلل في موازين القوى الإقليمي مع سقوط نظام صدام حسين، وإطلاق يد إيران في منطقة الخليج العربي لملء الفراغ الاستراتيجي على حسابنا، ولتحقيق مشروع الهيمنة. وفسرت دول المجلس تردد إدارة أوباما، ثم تقاربها مع إيران لتجميد ملف إيران النووي واقتلاعها من محور روسيا الصين، بأنه سيكون على حسابها.
وتختلف دول المجلس حول الأولويات الأمنية، وفي توحيد سياساتها وتحديد مصادر الخطر والتهديد. وربما عمق رفع اليد الأميركية بعد تراجع اعتماد واشنطن على نفط الخليج، وتقاربها مع إيران، وتهديد الفاعلين من غير الدول، وتغير طبيعة التهديدات إلى «القاعدة» و«داعش» والجماعات المتطرفة، من العقدة الأمنية الخليجية.
وبالتالي كان طبيعياً زيادة منسوب القلق الخليجي. وهذا ما جعل كل دولة من دول المجلس تستثمر في علاقة وثيقة مع واشنطن كخيار عملي في ظل عدم قدرة مجلس التعاون على التحول لطرف يوازن العراق وإيران. وهو ما رحبت به واشنطن. وما أربك مشروع إقامة نظام أمني جماعي خليجي، بسبب خلل توازن القوى الخليجي.
والخلل في السياسات والاستراتيجيات الخليجية بالتعويل على التحالف الثنائي مع واشنطن بديلاً عملياً عن التعاون لم يساعد على الانتقال بمجلس التعاون إلى طرف محوري في المواجهة الإقليمية. وخاصة في ظل عقلية الحصار الأمني، والحرب الباردة الإقليمية، وتبدل التحالفات. وهذا عزز قناعة الدول الأعضاء بأن مجلس التعاون بتركيبته ومراوحته وبطئه وعجزه عن الردع والصد وتحقيق التوازن وخاصة تجاه إيران لن يوفر المظلة الأمنية التي تقي جميع الدول أخطار العواصف العاتية، التي تهب من إيران والعراق واليمن وسوريا.
ولذلك كان طبيعياً أن تلجأ كل دولة لخطة بديلة لدرء الأخطار عنها بتعاون عسكري وبصفقات أسلحة متطورة خاصة مع واشنطن، لأن الهاجس الأمني لكل دولة ليس بالضرورة مشتركاً مع دول المجلس الأخرى. فمثلًا ما قد تراه عُمان خطراً يتهددها قد لا تراه الكويت كذلك، والعكس صحيح، بسبب الموقع الجغرافي. أو ما تراه دولة خطراً قد تراه دولة أخرى خطراً مبالغاً فيه. وهناك اختلاف حول الأولويات الأمنية ومصادر التهديد، هل هي العراق أو إيران أو «داعش» أو «القاعدة» أو الحوثيون؟ وهناك خلاف حول الاستراتيجية، هل هي بالاحتواء، أو بالمقاطعة أو بالتعاون والانفتاح؟ وهل المزيد من صفقات الأسلحة ضمانة لردع الخصوم؟
ثم أتت الخطوة الجريئة بحتمية الاستقلالية، وأخذ خيارات مختلفة عن القرار الأميركي. وجاءت عاصفة الحزم وإعادة الأمل برسائلها وأبعادها الاستراتيجية والعسكرية والسياسية في اليمن، لاحتواء إيران وحلفائها، ولاستعادة الأمل والثقة بقدرة ودور مجلس التعاون الخليجي ليكون حائط صد جماعياً يحقق أهدافه في تعضيد القدرات الأمنية والدفاعية وتحقيق الردع للقوى الإقليمية، ويلغي الحاجة للعلاقة الثنائية مع واشنطن، ويؤسس لنظام أمني خليجي جديد.
ويبني الثقة المفقودة داخل المجلس بقدراته ودوره، وتحويله إلى طرف وقوة توازن وردع في المنطقة، وهذا مطلوب بإلحاح وخاصة مع تصاعد الحرب الباردة بين ضفتي الخليج، وفي ظل تغير التحالفات وبقاء التهديدات الإقليمية. ولذلك على إدارة أوباما طمأنة الحلفاء الخليجيين في قمة كامب ديفيد القادمة بالمواقف والأفعال، وليس فقط بمجرد الشعارات والأقوال. ولهذا مقال آخر.