أفكار وأضواء / الليبرالية.. في أول تطبيق
خليل علي حيدر
نجم عن الجهد الفكري الذي بذله فلاسفة أوروبا، مثل هوبزولوك وروسو وجيمس ستيوارت ميل وآخرين، وضع أسس نظرية راسخة للديموقراطية الليبرالية.. فماذا عن التطبيق العملي؟ اذا كانت جذور الليبرالية الفكرية قد نمت من خلال مفكري القرن السابع عشر في أكثر من دولة، انجلترا وفرنسا والى حد ما في الولايات المتحدة يقول د.حازم الببلاوي: «فانها وجدت أهم تطبيقاتها في انجلترا خلال القرن التاسع عشر.ويمكن القول ان الفترة منذ نهاية الحروب النابليونية عام 1815 حتى قيام الحرب العالمية الأولى 1914 هي أبرز فترات الحكم الليبرالي في انجلترا.وكان تداول السلطة بين حزب الأحرار وحزب المحافظين تعبيراً عن سيطرة الأفكار الليبرالية».(ص14).
ولو عدنا شيئاً الى الوراء في تاريخ بريطانيا التي ظهرت فيها الديموقراطية الحديثة أول ما ظهرت وثيقتها الدستورية المسماة ب «الماجنا كارتا»، لوجدنا ان هذه الديموقراطية الانجليزية كانت تشوبها بعض المآخذ عام 1750 مثلاً.فالتصويت كان من حق الملاك الأثرياء وحدهم، ولهذا حرم نحو %85 من الانجليز الذكور حق التصويت، بينما لم تكن للنساء أية حقوق سياسية.
وكان التصويت للمرشحين علنياً برفع الأيدي لا بالتصويت السري، وأدى هذا النوع من التصويت الى منع الناخبين من التعبير الحر عن آرائهم، وتسبب في انتشار شراء الأصوات والابتزاز المالي والتهديد وغير ذلك.
من جانب آخر، تجاهل قانون الانتخاب لمجلس العموم الخلخلة السكانية الناجمة عن الثورة الصناعية، والهجرة من المناطق الريفية الى المدن.فحرمت المناطق السكانية المزدحمة الجديدة مثل مانشستر وليدز من التمثيل النيابي، فيما ظلّت مناطق أخرى شبه مهجورة محتفظة بتأثيرها الانتخابي.وكانت هذه المناطق المنخفضة السكان تسمى بالمدن أو القصبات المتعفنة، Rotten boroughs، أما تلك التي كان مالك الأرض القوي النفوذ يختار فيها شخصياً ممثلي البلدة أو المنطقة لمجلس العموم فتسمى «منطقة بالجيب» .A pocket borough.. أي مضمونة! وكانت المناصب الكبرى والأساسية في الدولة بعيدة عن متناول الشعب.فالطامح الى الحصول عليها لابد ان يكون من الأثرياء، وممن يبدي استعداده لشغل هذه المناصب من دون راتب أو عائد مادي، وأن يكون فوق ذلك عضواً في الكنيسة الانجليزية Chrch of England، أو منتمياً الى أي مذهب بروتستانتي آخر.مما أقفل مجالات الادارة الحكومية في وجه الكاثوليك واليهود وفقراء الشعب.ومنعه من الصدور، حتى نال القانون أغلبية الأصوات في مجلس العموم.ولما كان مجلس اللوردات هيئة وراثية، بات من المستحيل على عامة الشعب التأثير في تركيبة عضويته.
والى جانب كل هذه المعوقات التي عرقلت تبني الاصلاحات الديموقراطية في بريطانيا، تسببت الثورة الفرنسية والحروب النابليونية التي كانت بريطانيا طرفاً رئيسياً فيها، في تأخير جملة الاصلاحات. وكما هو الأمر اليوم مع «الربيع العربي»، ربط الكثير من الانجليز بين الاصلاحات المنشودة وبين انحرفات الثورة الفرنسية وسفك الدماء والارهاب والعنف، وانشغل الرأي العام مطولاً بالحروب النابليونية ونتائجها.
ولكن ما ان وضعت هذه الحروب أوزارها، ونفى نابليون عام 1815، حتى باشر الليبراليون الانجليز دعوتهم الى الاصلاح الديموقراطي .(Review Text Ln world history، by lrving l.gordon، new york، 1966، p 179-79) ونعود الى كُراس د.حازم الببلاوي، فنراه يقول ان العصر الذهبي للفكر الليبرالي في التطبيق خلال القرن التاسع عشر، قد تزامن مع «ازدهار ونمو الثورة الصناعية في انجلترا، أو ما عرف باسم النظام الراسمالي».ولكن د.الببلاوي يلفت النظر الى مسألة مهمة في تطور الليبرالية.فيقول ان تصاعد نمو الراسمالية في انجلترا، سرعان ما صاحبه، مع ازدهار النشاط الاقتصادي الصناعي «بداية تدخل الدولة في ضبط حدود ذلك النشاط».
فصدرت القوانين المنظمة للعمل سواء من حيث وضع الضوابط على تشغيل الأحداث والنساء أو مراعاة ظروف الأمان والصحة».
وتدل هذه الملاحظة، على ان التدخل كان دائماً بضغط من الليبراليين، كما يبين د.الببلاوي، ان الليبرالية منذ البداية لم تكن اعطاء الحرية المطلقة لرأس المال واستغلال العمال، الأمر الذي يؤكد ان ما يُعرف باسم «دعه يعمل، دعه يمر»، أو كما يعبر عنها بالفرنسية LAISSEZ Passer، Laissez Faire «لم يكن أبداً من تعاليم الفكر الليبرالي، فالنظم الليبرالية اعترفت دوماً بدور مهم للدولة، ولكن مع ضرورة الاحترام الكامل لحقوق الأفراد وحرياتهم، وهو أمر لا يتعارض مع مبدأ تدخل الدولة».(ص 15 من كتيبب د.الببلاوي «عن الديموقراطية الليبرالية، 1993).خصّ الفيلسوف الانجليزي الكبير برتراند راسل (1970-1872) مرحلة صعود الديموقراطية الليبرالية في بريطانيا ببحث شيِّق في كتابه المترجم الى العربية بعنوان «الحرية والتنظيم: 1914-1814»، Freedom and Organization، فبحث هذه الفترة بقلمه الشيِّق وعقله الناقد وروحه الانسانية، وتحدث عن صراع الأحرار الليبراليين والمحافظين، وكانا من طبقة واحدة، وقال: كان الأحرار والمحافظون The Whigs and the Tories جميعاً من الارستقراطيين.
وكان الانقسام بينهما اجتماعياً كما كان سياسياً: «فكانت هناك منازل محافظين يقابل فيها المرء محافظين، ومنازل أحرار يقابل فيها احراراً.وكان المحافظون يتزوجون عادة من بين المحافظين وكذلك يفعل الأحرار.ومع ان الفريقين كانا ارستقراطيين فانهما يختلفان الى حد كبير في تقاليدهما وفي موقفهما من الطبقة المتوسطة الناهضة».
ويضيف الفيلسوف «راسل» ساخراً: «كان المحافظون في بداية القرن التاسع عشر بصفة عامة أقل ذكاء من الأحرار.ولم يكن مبدؤهم الأساسي، وهو معارضة فرنسا وكل الأفكار الفرنسية، يتطلب تفكيراً مستنيراً ولا يدفع الى تفكير مستنير، وكانوا مخلصين للكنيسة والملك.وكانوا يؤمنون بأن الدرجات الاجتماعية من صنع الله، وبأن احترام الصغير للكبير أمر بالغ الأهمية.وكانوا في صف المصالح الزراعية ويودون ان تظل انجلترا معتمدة على نفسها في انتاج ما تحتاجه من غذاء.وكانوا يعارضون بطبيعة الحال انتشار التعليم بين الجماهير وحرية الصحافة والخطب التي تثير الفتنة، وكان الرجل العظيم الوحيد بينهم هو دوق ولنجتون».(ص71).
أما «الأحرار»، يضيف «راسل»، «فكانوا أكثر امتاعاً وأشد تعقيداً.ولما كانوا مدينين بمركزهم لثورة ناجحة ضد ملك، فانهم لم يعتنقوا في وقت من الأوقات ذلك الولاء المطلق الذي كان يتسم به المحافظون.وبينما كان أغلب الأحرار أيام الثورة الفرنسية قد حذوا حذو «بيرك» في التنديد بالثورة، كان «فوكس» الذي ظل الزعيم الرسمي للحزب، في صف الفرنسيين الى أقصى حد، ولم يتحمسوا أبداً للحرب – ضد نابليون – حماسة المحافظين.
وكان الأحرار يؤمنون بالملكِيّة، باعتبارها أداة نافعة لحماية النظام العام، الا أنهم لم يدعوا في يوم من الأيام أنهم يكنون احتراماً لأشخاص الملوك».وقد انتقد أحدهم بناء قصر بكنجهام في عهد «وليام الرابع» (1765 – 1837) الذي اعتلى العرش البريطاني عام 1830، وكان ضعيفاً، ثم جاءت من بعده الملكة فيكتوريا، ابنة أخيه، فقال: «لم يحدث أبداً ان كان هُناك اسراف شرير مبتذل مثل هذا.لقد تكلف مليوناً من الجنيهات، وليس هُناك خطأ واحد لم يُرتكب فيه.أعمدة في لون الخداش لا نهاية لها يشيع مرآها في النفس اشمئزازاً وتبعث على الغثيان ولكن ورق الجدران في جناح الملكة ابشع بكثير (هكذا) من اي شيء تراه وأكثر ابتذالا هل يستطيع الانسان بعد ذلك ان يدهش من ان يصير الناس متطرفين مع وجود مثل هذا النوع من السفه أمام ابصارهم، دع عنك ما تثيره في النفوس شخصيات هؤلاء الملوك أنفسهم» (ص72).
دخلت بريطانيا مع انتهاء الحروب النابليونية مرحلة الاصلاحات الديموقراطية، التي امتدت كما ذكرنا قرابة قرن، ما بين 1815 و1914 سادت الروح التوافقية والتدرج الاصلاحات السياسية في بريطانيا بدلاً من العنف الثوري Democtacy through evolution. وتم ذلك بتنازلات متبادلة بين المحافظين والأحرار، وممثلي الأثرياء الأرستقراطيين من جانب والفقراء.
كان مشروع الاصلاح النيابي عام 1832 الاختبار الأول للنوايا، وكان يحظى بدعم شعبي عريض The Reform Bill of 1832.وقد نال المشروع أغلبية الأصوات في مجلس العموم، ولم توقفه معارضة مجلس اللوردات بعد ان هدد الملك بأن يمنح المزيد من اللوردات الليبراليين حتى العضوية في المجلس بما يضمن نجاح التصويت لصالح القرار.وكان من نتائج قرار الاصلاح العظيم هذا كما سمي، Great Reform Bill، تخفيف شروط الثراء والمِلْكية في التصويت، وبذلك شمل الحق الطبقة المتوسطة، وألغى حق التمثيل النيابي من القرى والبلدات المهجورة، rooten boroughs، وضمن هذا الحق للكثير من المناطق الصناعية المزدحمة.وهكذا انتهت هيمنة ملاك الأراضي من الأرستقراطية الانجليزية على قرارات مجلس العموم، لمصلحة الطبقة الوسطى التجارية والصناعية، التي كانت قد ضاقت ذرعاً بضغوط وتدخلات الأرستقراطية الزراعية والعقارية.
وجاءت الخطوة الثانية في الاصلاح البرلماني البريطاني من خلال التحرك العمالي في المدن وتقديم جملة مطالب اصلاحية لم تشملها الحركة الأولى.وقد طالب «بيان الشعب» People’s Charter الحكومة بالانتخابات العامة، والمساواة بين المناطق الانتخابية، والتصويت السري، واجراء الانتخابات البرلمانية سنوياً، والغاء شروط تملك العقار لنيل حق التصويت بالنسبة لمرشحي عضوية البرلمان وصرف رواتب للأعضاء.ولجأ مقدمو المطالب من العمال وغيرهم الى المسيرات والمظاهرات والاحتشاد لدعم مطالبهم، ولم تنجح هذه الجهود على الرغم من كل هذا الدعم وعلى الرغم من ثورات 1848 التي عمت أوروبا.غير ان هذه الاصلاحات والمطالب رأت تدريجياً النور في سنوات لاحقة.
وفي عام 1867 برزت مطالب عمالية وشعبية أوسع لتخفيض شروط الملكية العقارية وتوسيع حقوق عمال المدن الانتخابية، وكانت هذه الحملة في البرلمان بقيادة زعيم حزب المحافظين بنيامين ديزرائيلي Disraeli الذي فكّر باستقطاب عمال المدن وضمان أصواتهم الى جانب الأرستقراطية الزراعية وملاك الأراضي، حيث ستتمكن هذه القوة الانتخابية من هزيمة الليبراليين التجار وملاك المصانع.غير ان نصيب «ديزرائيلي» كان الفشل في مسعاه هذا، اذ اعتاد العمال الاعتماد على الليبراليين لتحقيق مطالبهم الديموقراطية ومع الوقت ظهر الى الوجود تنظيم خاص بهم وهو «حزب العمال».
وفي عام 1884 تم تقديم مشروع برلماني منح العمال الزراعيين حق المشاركة في الانتخابات.وقد فاز المشروع بدعم من الحزب الليبرالي برئاسة رئيس الوزراء البريطاني وليام جلادستون Gladstone.
وفي عام 1918، بعد الحرب العالمية الأولى، نال كل الرجال فوق ال21 عاماً من أعمارهم حق التصويت.ومنح القانون نفسه الحقوق السياسية لمعظم النساء فوق ال30 عاماً، تقديراً لمساهمة المرأة وعطائها وتضحياتها خلال سنوات الحرب.وأخيراً، جرت الموافقة عام 1928 على منح كل امرأة فوق ال21 عاماً حق التصويت، وبذلك أنجزت بريطانيا هذا المشروع الديموقراطي الطموح. Gordon، p.179-1980.
لم تنه هذه الاصلاحات سلطة مجلس اللوردات على مجلس العموم، وبالتالي كان نفوذ اللوردات قوياً حتى بدايات القرن العشرين عندما جرت سلسلة أخرى من التطورات الديموقراطية الحاسمة في البرلمان الانجليزي كما سنرى، مع مواصلة عرض ومناقشة كراس د.الببلاوي حول الديموقراطية الليبرالية.