كتابة مثل هذا التقرير المليء بشبهات الفضائح تبعث الكثير من الأمل في مستقبل أفضل لكرة القدم العالمية، وطالما أننا قادرين على كشف الخلل وفضحه فنحن حتما قادرين أيضا على إحداث التغيير نحو الأفضل.
هذا التغيير يقتضي بالأساس إرادة صادقة وحقيقية عند المخلصين في الأسرة الدولية والاتحادات الأعضاء في الفيفا، وقد صارت الفرصة مواتية لنقلة كبيرة من خلال الانتخابات المنتظرة على مقعد الرئيس أواخر شهر أيار- مايو الحالي 2015.
ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان فور انطلاق عملية التحقيق بحثا عن الصندوق الأسود لشبهات فساد استمر سنوات طويلة في أكبر منظمة رياضية في عالم الساحرة المستديرة هو نتائج التصويت الذي أجرته صحيفة الغارديان البريطانية لقرائها خلال انتخابات الفيفا العام 2011، حيث كان السؤال: “هل كنت ستصوت لسيب بلاتر؟”.
الاستفتاء أظهر أن 4 في المائة من القراء فقط كانوا سيصوتون لبلاتر، فيما امتنع 96 في المائة من القراء عن التصويت.
هذه النسبة المعاكسة لتلك التي يفوز بها الزعماء العرب في الانتخابات الرئاسية، هي حقيقة ما كسبه السويسري سيب بلاتر من سعمة وشعبية وهو يترأس هذا الهرم العالمي الكبير.
الحقيقة لم تجد فرصة أفضل للبحث عن الصندوق الأسود من قرب موعد الانتخابات التي ستحدد مصير اللعبة الشعبية الأولى على العالم لسنوات 4 مقبلة، ولذلك قررت طرق هذا الباب الساخن والذي لا يأتي بعد فتحه إلا برياح عاتية تفوح منها رائحة الشك وتغلفها المساترات والتصريحات المشبوهة والمعلومات المريبة التي تناقلتها كبريات وسائل الإعلام في أوروبا والعالم دون أن يخرج إلى العلن تحقيق واحد نزيه وشفاف.
بداية الحكاية
فيما كان سيب بلاتر يستعد لتولي رئاسة الفيفا العام 2011، بعد فوزه في انتخابات انسحب منها منافسه محمد بن همام لاتهامه بتقديم رشاوى لأعضاء دول في البحر الكاريبي، طفت على السطح اتهامات أخرى طالت مسؤولين في الاتحاد الدولي لكرة القدم، ومنهم بلاتر نفسه.
وكان من أبرز تلك الاتهامات فوز بلاتر برئاسة الفيفا العام 1998 بسبب دعم عدد من الشخصيات السياسية له، وشرائها الأصوات في تلك الانتخابات، كما اتهم بلاتر العام 2002 بالفساد عبر دفع رشاوى مالية لشراء الأصوات.
نفس هذه الاتهامات التي واجهها بلاتر في نهاية تسعينات القرن الماضي، في محاولة لكسب مقعد ارئاسة ضد منافسه لينارت جوهانسن، تم الكشف عنها في كتاب “كيف تمت سرقة اللعبة” لديفيد يالوب، ذكر فيه أن مليون دولار داخل مغلفات ارسلت إلى 20 دولة على هامش اجتماع الفيفا سرا بأحد فنادق سويسرا.
في تلك الأثناء قال نائب رئيس الاتحاد الأفريقي ورئيس الاتحاد الصومالي لكرة القدم، فرح أدو، أن مبلغ 100 ألف دولار عرض عليه مقابل التصويت لصالح سيب بلاتر في انتخابات الفيفا العام 2002، وأكد أن 18 دولة أفريقية وافقت على الحصول على رشاوى مقابل إعطاء أصواتها لبلاتر.
وما أثار الريبة أكثر أن رئيس الاتحاد الأوروبي السابق والمرشح الأسبق لرئاسة الفيفا، لينارت جوهانسن، أكد أن أحد معاونيه شاهد بأم عينه “مغلفات بنية اللون” يتم تسليمها إلى بعض وفود الاتحادات الوطنية، ويعتقد أنها تحوي على مبالغ مالية، مطالبا بإجراء تحقيقات واسعة وشاملة، غير أن جوهانسن عاد وقال أن اللجنة التنفيذية للفيفا صرفت النظر عن جميع تلك الاتهامات، بدعوى “عدم جدوى الخوض فيها،” وهو ما يزيد الغموض بشأن أسباب سلوك اللجنة التنفيذية آنذاك.
المثير للريبة أكثر هو أنه وقبيل الانتخابات ذاتها في مايو/ أيار، أصدر بلاتر، قرارا يقضي بإيقاف تحقيق حول مصادر تمويل الاتحاد الدولي، بحجة أن “إيقاف هذا التحقيق سيضمن سلامة الفيفا وأعضاء اللجنة التنفيذية ومنعا لتعريض أي معلومات سرية للكشف والعلنية”.
زوبعة كبيرة تموت فجأة
ولم يكد يخرج بلاتر من هذا المأزق الكبير حتى وقع في فخ أكبر، ولكنه نجا منه أيضا دون أن يعرف أحد الخيوط الكاملة لتلك القضية الغامضة.
فقد اتهم مايكل زن روفينن، السكرتير السابق للاتحاد الدولي بلاتر في تقرير عاصف وسري قدمه للجنة التنفيذية للفيفا في مايو/ أيار من العام 2002، وذكر فيه أن بلاتر خرق القوانين منذ توليه الرئاسة العام 1998.
وقد أمهل زن روفينن بلاتر أسبوعا للرد على هذه الاتهامات، أو سيقدم جميع تلك الملفات للسلطات السويسرية، وجاء الرد على لسان بلاتر نفسه خلال مؤتمر صحفي جمع الرجلين، قال فيه إن الفيفا لا يعاني من أي أزمة، وإن الموضوع برمته سوء تفاهم.
ولم يمض وقت طويل حتى كشفت وثيقة سرية مكتوبة بخط اليد عن صفقة عقدت بين بلاتر يعطي من خلالها حق بث نهائيات كأس العالم لنائب الرئيس السابق جاك وورنر، بدلا من عرضها كمناقصة بشكل علني، وكان جيروم فالكي، السكرتير العام للفيفا، هو من كتب الرسالة التي وصفها الاتحاد الدولي بعبارة: “لا يمكن تأكيد صحة محتواها”.
وجاء في نص الرسالة: “هذا هو الاتفاق الموقع من قبل (الرئيس).. لم يتم عرض هذا الاتفاق على اللجان الاعتيادية والرسمية، وبالتالي أطلب منكم عدم نشرها علنا خلال الوقت الحالي، تحياتي.. جيروم”.
تضارب المصالح
دوت فضيحة إفلاس شركة ISL للتسويق وبث المباريات ليخسر الفيفا حوالي ٢٧ مليون يورو، غير أن الصدمة الأكبر جاءت بعد معرفة أن الشركة الجديدة صاحبة حقوق التسويق وبث المباريات (infront) يرأسها فيليب بلاتر ابن شقيق جوزيف بلاتر، وقد عرضت هذه الشركة في فبراير/ شباط الماضي للشراء بمبلغ مليار دولار من شركه فرنسية.
مطالبات بالتنحي
وسرعان ما أصبح بلاتر مطالبا بالتنحي عن منصبه بعد اعترافه بعلمه عن العمولة التي كان يحصل عليها سلفه جواو هافيلانج مقابل منح عقود البث التلفزيوني لنهائيات كأس العالم 2002 و2006، وقال بلاتر إنه كان يعلم بحصول هافيلانج على مبلغ مليون فرنك سويسري.
وتمت تبرئة بلاتر من جميع التهم، فيما اضطر سلفه هافيلانج إلى الاستقالة من منصبه كرئيس شرفي للفيفا بسبب دوره في القضية، وقد رحب بلاتر بالقرار، معبرا عن رضاه في أن “تصرفات الرئيس لا يمكن وصفها بأي شكل من الأشكال بالمخالفة للقانون”.
العنصرية واللاعبات وكريستيانو
اجمع عدد من لاعبي كرة القدم، والناشطين في مجال محاربة العنصرية وحتى رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون لاستنكار التصريحات التي صدرت عن بلاتر بشأن أن العنصرية ليست مشكلة تواجهها كرة القدم، وأنه يمكن حل مثل هذه المشاكل بمصافحة اليد.
ووصفت هذه الشخصيات تصريحات بلاتر بالمخجلة، وقال ديفيد كاميرون إن دول العالم كله تحارب العنصرية بجميع أشكالها، وإنه من المعيب أن نعتبر العنصرية جزءا اعتياديا من كرة القدم.
بعض الشخصيات الأخرى مثل وزير الرياضة البريطاني هيو روبرتسون طالب بلاتر بالتنحي عن منصبه بعد هذه التصريحات لأنها ببساطة تصريحات مرفوضة.
وبعد انقضاء هذه الزوبعة أثار رئيس الفيفا مجددا عاصفة من الجدل بعد تصريحات قال فيها إن على اللاعبات الرياضيات ارتداء ملابس ضيقة وذلك من أجل تقديم صورة أكثر جمالية للمرأة الرياضية، وأضاف بلاتر بالقول: “اللاعبات الرياضيات جميلات، ولديهن بعض القوانين التي تختلف عن الرجال كاللعب مثلا بكرات أكثر خفة، فلم لا يتم ذلك بأسلوب عصري جميل”.
وقد أثارت صريحات بلاتر غضبا واسعا بين أوساط اللاعبات الأوروبيات، فقد وصفت الكثير منهن تصريحات بلاتر بالمخزية، والفظيعة، وقالت إحداهن: “علينا التفكير بشكل عملي أكبر، فإن أراد القدوم إلى المباراة لمشاهدة الإثارة النسائية، فعليه الذهاب لمكان آخر”.
وقبل جائزة الكرة الذهبية 2013 أطلق لسان بلاتر تصريحات مهينة للدولي البرتغالي كريستيانو رونالدو لاعب ريال مدريد الاسباني الذي قال أنه يصرف الكثير من الأموال على “جل الشعر” وأنه يتصرف مثل العسكري على أرض الملعب، ما دفعه بعد ذلك للإعتذار، وقد اتهمه مراقبون بأنه مدد مهلة التصويت على الجائزة إرضاء لرونالدو الذي فاز بها لاحقا.
هروب الرعاة
أخيرا وليس آخرا.. أعلنت كل من كاسترول، وكونتيننتال، وجونسون اند جونسون انضمامها إلى كل من سوني وطيران الإمارات في ترك الفيفا.
ويعتبر هذا الانسحاب من قبل عدد من أكبر الشركات الداعمة للفيفا في العالم صفعة قوية للاتحاد الدولي، الذي يجني كل أربع سنوات ما يعادل مليار جنيه استرليني من هذه الشركات.
ولم تذكر الشركات الأسباب التي دفعتها إلى الانسحاب، ولكن يبدو أن العلاقات المتوترة مع الاتحاد هي السبب المشترك بين جميع تلك الشركات.
الخلاصة
فهل خرجنا من هذا الصندوق الأسود بحقيقة واحدة تدفعنا للتصميم على التغيير.. أم أنها زوبعة جديد تولد وتموت في فنجان صغير ويبقى الحال على ما هو عليه؟.. الجواب في بطون المصوتين في 29 أيار- مايو 2015.