يشهد العالم العربي حالة من التفكك يغيب فيها العقل، مما يستوجب استنهاض العقل بدلا من التوصيف التخويفي الذي سيطر على الساحة العربية. نقترب من اليأس والاستسلام ولا مفر من مبادرة يحكمها العقل لكي نستطيع بلورة خيارات المواجهة، وإلا فحدود كثير من الدول قد ترتسم بالدم وتأتي الأيام بما لا تحمد عقباه.
المواجهة مع أيديولوجيات إقصائية له أسبابه الكامنة في بنية المجتمع العربي، ولعل نكبة الليبرالية أحد الأسباب، إذ لم تستطع التصدي لموجات التطرف الدينية التي هبّت على العالم العربي، وفشلت في بلورة مشاريع نهضوية، وباتت تشارك السلطة في عللها. الانتلجنسيا الحرة والليبرالية الاقتصادية فشلتا في ترسية أرضية من القواسم المشتركة وانشغلتا بصراعات هامشية، صراعات جاءت بخيبات نجني ثمارها في هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا. فكل ما نجده من بقايا الليبرالية يتجسد في تثبيت الكيانات والمحاصصات التي وَجدت فيها السلطة قوتها، والكل تقريباً فشل في تكوين منطق الدولة والمواطنة لمواجهة الانقسامات الحادة التي تعيشها بلدان المنطقة. والنتيجة التي وصلنا إليها من ذلك تتجسد في حالة عجز هيكلي ينخر الدول بمؤسساتها سواء الرسمية أو المدنية. واليوم نشاهد حالة ذهول كبيرة ترتسم على جبين المواطن العربي، وهي حالة نفسية تقوده لقبول الواقع في بلده، حتى وإن كان يحمل الدمار الاجتماعي معه.
أما الحركات الدينية فهي كذلك مهدت لنهوض حركات متطرفة، كما فعل الليبراليون، واستغلت حركات التطرف الديني حالة الذهول والضياع وعملت وفق استراتيجية اخترقت فيها العقول الشابة لكونها تعيش الإحباط واليأس ولكونها وصلت إلى مرحلة لم تعد تشعر فيها بوجودها، فتحول الموت إلى وسيلة للحياة «العادلة» التي يبحث عنها الشباب!
الفشل الليبرالي مهّد لصعود التوحش الديني الذي مس الإسلام كدين يحمل قيماً إنسانية وحضارية، إلا أن سطوة صوت التوحش خلطت الصور في المخيلة، سواء المحلية أو العالمية.
والإشكالية الكبيرة هي أننا نشاهد احتضار حضارة إسلامية وإنسانية عريقة ضربت جذورها عبر التاريخ، وهي اليوم تذبح بسكاكين التطرف المتوحش الذي لا نملك من القوة ما يكفي لمواجهته.
وإذ نتحالف مع قوى دولية لمناهضة التطرف المتوحش، فإننا نفعل ذلك ونحن في حالة ضعف، مما يعني أن واقع التقسيم يفرض وجوده كوسيلة تؤدي غرضها ووظائفها لدى هذه القوى في إعادة رسم خريطة المنطقة وفق معادلات عشائرية ودينية مذهبية.
ورغم اقترابنا من حالة اليأس العامة، إلا أننا نجد في استنهاض المجتمع المدني العربي فرصة تاريخية قد تسد الهجمات المتوحشة، وقد تساعد التكتلات المدنية على الانتقال من ردة الفعل إلى الفعل في مواجهة حالة الانهيار التي تسهدف منطقتنا العربية. المسار ليس بقصير، وندرك أن إعادة البناء عملية شاقة، خصوصاً في ظل وجود نظم تعليمية مهترية أفسدت عقول الشباب من خلال مناهج عقيمة شوهت صورة الإسلام الحضارية. فالتربية سواء المدرسية أو الأسرية هي مفتاحنا نحو تغيير عقول الشباب لكي يدرك ماذا يحدث من حوله.
نحن ندرك أن الإقليم الخليجي مستهدف نتيجة لتواصل مشوش، لكننا بحاجة إلى إعادة أخذ المبادرة ونقل الصورة الواقعية، فالدمار لن يتوقف عند حدودنا، والتوحش له انصاره في كل بقاع العالم، وعدم التصدي لسياسة التمزيق له عواقبه الخطيرة التي تمس الغرب أيضاً. دعونا نتنادى كقوى إنسانية، وعلى اختلاف أفكارنا وعقائدنا، لكي نوقف النزيف الذي يغرق عالمنا ببحر من التوحش.