البارحة، حقبة بائسة عاشتها الكويت ما بين ثمانينات القرن الفائت وبداية تسعيناته، تكالب على صناعة أحداثها ثالوث خطر، وجاء نتاجها مأساوياً حين تم بساعات قلائل شطبها من جغرافيا المنطقة. على الجبهة الإقتصادية، تحالف فساد أزمة المناخ وحلولها مع إنهيار سوق النفط أسعاراً وإنتاجاً، وعلى الجبهة الإجتماعية، بلغ الفرز الطائفي أوجه بسبب دعم الحكومة غير المحدود لحرب صدام ضد إيران، وعلى الجبهة السياسية، تم تعطيل الدستور وتكميم الأفواه وإستخدام عصا الأمن الغليظة. خاتمة البارحة، كانت قراءة مهووس ومفلس بأن الكويت بأوضاعها باتت ثمرة رائبة، حان قطافها. فالغرب الذي خدمه بالتصدي لأعداء الشيطان الأكبر سوف يعتبرها مكافأة له، وخزينته سوف تمتلئ بزيادة إحتياطياته وصادراته النفطية، وملاءته المالية سوف يعززها مدخرات الكويت الخارجية، والشعب الكويتي في معظمه وفق قراءته لأوضاعه سوف يستقبله إستقبال الأبطال. وهكذا، إحتاجت الكويت إلى غزو خارجي كان ضحيته الكثير من الشهداء الأبرار من مختلف الطوائف والمناطق والتوجهات السياسية، زائداً حرق آبارها النفطية، وتدمير بناها التحتية، لكي تصحو وتعود إلى مشروع دولة ستينات القرن الفائت، وكان ممكناً إجتناب تلك الكارثة ببعض التفكير الإستباقي.
اليوم، وضع الكويت أشبه بأوضاع البارحة المأساوية، يحكم ذلك الوضع نفس الثالوث الخطر، وفي ظروف إقليمية أسوأ، سوق نفط كاسدة وفساد في قمة رواجه على الجبهة الإقتصادية، والتفتت المجتمعي لا يقتصر على جانبه المذهبي، وإنما المناطقي، وأيضاً ضمن كل مكون من هذه المكونات على الجبهة الإجتماعية، وإحتكار سلطة وتكميم أفواه على الجبهة السياسية. البارحة، فشلنا في قراءة وتحليل المؤشرات البائنة والتي إنتهت بما إنتهت إليه، ولم نحمل أي طرف بأي مسؤولية عن تلك الكارثة، واليوم، نحن سادرون في خطيئتنا في قراءة وتحليل المؤشرات الخطرة البائنة. البارحة، إنتهى الأمر بغزو خارجي، وأنقذنا وعي وتماسك الجبهة الداخلية التي قدمت للعالم مثالاً رائعاً أحترمه، اليوم، نحن من قام بتفتيت هذا الأصل الجميل الذي أنقذنا، أي استبدلنا الخطر الخارجي بخطر داخلي بعد تدمير جهاز المناعة.
البارحة، كان هناك معسكر إشتراكي يعتمد في شراء إستقراره الظاهر على قمع قوى الأمن وإعلام الرأي الواحد، البارحة أيضاً كانت هناك نماذج عربية وإقليمية محيطة بنا تتبنى نفس تلك السيرة. اليوم، تداعت المنظومة الإشتراكية، وتبعها معظم النماذج المشابهة في دول الإقليم بدءاً من تونس، وأصبحت هذه النماذج سقط تاريخ بعد الكثير من المعاناة والألم. أخوات تونس خسروا جبهاتهم الداخلية، فحولهم الغزو الداخلي إلى دول فاشلة، القتل فيها على الهوية، والدمار شامل، والله وحده يعلم متى تنتهي مآسيهم، إن إنتهت، ولا مجال لمقارنة أوضاع تونس التي إختارت تماسك جبهتها الداخلية بأوضاع أخواتها.
الخلاصة هي، أحداث مسجد الصادق التي أزهقت أرواح بريئة وطاهرة من أهلنا وأحباءنا لابد من قراءتها بشكل صحيح، من أجل تضحياتهم، ومن أجلنا جميعاً، ولا يجب أن تتوقف قراءتنا لها على ردود الفعل الجميلة للغالبية العظمى من شعب هذا البلد الطيب. فالواجب يدعونا إلى قراءتها على أنها بثور على الجلد ناتجة عن مرض خبيث نخر عظام جبهتنا الداخلية، ومن الواجب قراءتها بالإتعاظ مما يجري حولنا، فلسنا جزيرة في القطب الشمالي أو القطب الجنوبي. ما حدث بالأمس في جلستين لمجلس الأمة، استخدمت فيهما العُقُلْ، كان مؤشراً في غاية الخطورة، فقد كان إستعراضاً إستقطابياً بائساً لحالة فرز طائفي مريض موجود على الأرض، أراد بعض السياسيين إستثماره لجولة إنتخابات قادمة. وفي الدولة الحصيفة، وخصوصاً في زمن تلتهب فيه حدودها، التحليل يعقبه علاج وقائي أو إستباقي يحفظ البلد من إحتمال دخول مرحلة اللاعودة لا سمح الله، خصوصاً إن إستعرت المواجهات في دول أخرى حولنا. والعلاج الإستباقي ليس صعباً، فما علينا سوى إستخدام بعض العقل بمقارنة أوضاع تلك الدول التي إستقرت، وتلك التي لم تستقر، ضمن المنظومة الإشتراكية، وعلينا مقارنة تونس بأخواتها، حتى نعرف بأن عصا الأمن وتكميم الأفواه ليسا بالقطع حلاً، ولا شراء الود السياسي بالمال بات ممكناً أو ناجعاً.
جاسم خالد السعدون
29 يونيو 2015