مع تفتّح عقول الناس، وتطوّر اتجاهات برامج الإذاعة والتلفزيون، واطلاع الجمهور على نماذج عالمية راقية من الإنتاج الإذاعي والتلفزيوني، فإن بعض جهات الإنتاج العربي مازالت متمسكة بنماذج وقوالب عفا عليها الزمن. ومن هذه النماذج برنامج الكاميرا الخفية، بأسمائه وعناوينه كافة. هذا البرنامج الذي يأتي كل عام بلون منفر، بل خادش للحياء وللصيام في الشهر الكريم، وصول هذه المرة إلى خانة تحقير الإنسان «الضيف» ووضعه في مواقف لا يرضاها إنسان. وقد شاهدنا السبّ العلني المتكرر، ونرفزة الضيف قبل التسجيل، بحيث يخرج عن طوره ويرفض أي اعتذار. وقد طالبت إحدى الفنانات صارخة: أنا أريد أن يعتذر اللي أخطأ.. أنا مصرية! كما شاهدنا منظر تقيؤ المُقدم – وإن كان عمداً- على الضيف، وهو مشهد لا يجوز أن يظهر على الشاشة، كما شاهدنا الضيفة وهي تبصق على المقدم وتسبّه سباً. بل شاهدنا الدماء تسيل من يد المذيع بعد أن أصابته الضيفة «المغدورة» وضربته بعنف. ثم تقع على أسفلت المطار، ويتم تقليبها بصورة غير مقبولة لكي تفيق. وشاهدنا في حلقة أخرى الضرب المُبرح من قبل الضيف لمضيفي الطائرة والمقدم، بصورة تحرِّض على العنف، وكذلك صراخَ وعذاب الأجنبية «باريس هيلتون»، ثم تحقيرها للمُقدم بلغة إنجليزية لم يفهمها، وفي تصريح لها ربطت هيلتون ما جرى في الحلقة بحال العرب الذين «يقتل بعضهم بعضاً»!
فهل كل تلك المشاهد مسلية وباعثة للمسَّرة لدى المشاهد؟ وهل يجوز إسماع الكلمات المصاحبة لمشاهد الخوف والرهبة لأطفالنا ومراهقينا؟ وهل كل ذلك الصراخ والعويل والتشنج يصلح لشهر العبادة والاستغفار والصيام؟
نؤمن بدور الإثارة في المادة التلفزيونية، ولو كسباً لمزيد من الإعلانات، لكن ليس على حساب أعصاب وصحة المُشارك والمشاهد. ثم هل انتهت كل «عذابات» الإنسان العربي كي نأتي له بممثلة أو مطرب ونضعه في مواقف مهينة بحُكم متطلبات الكاميرا الخفية؟! وهل عجز العقل العربي عن استنباط أفكار جديدة ومثيرة، وفي الوقت ذاته تحفظ للإنسان كرامته وصحته وأعصابه؟
نحن أمام مأزق فكري وثقافي في العالم العربي، وأعتقد أن مثل تلك البرامج تفاقم هذا المأزق وتعمقه.
للأسف، مازالت بعض الشركات تُنتج، وبعض الفضائيات تشتري ذلك الإنتاج وتدفع الملايين لشرائه، بينما يدفع المُشاهد ما هو أثمن من تلك الملايين؛ من أعصابه وكرامته ووقته.
والسؤال الأهم: هل فعلاً «يتلذذ» المشاهدون برؤية إنسان يتعذَّب أمامهم ويتلوى من الألم أو الهلع؟ وهلي يجوز أن تسقط سيدة محترمة «وإن كانت فنانة» على الأرض بكامل جسدها لتحتويها يدُ المقدم الذي سبَّب لها كل ذالك الوجع النفسي والجسدي، ليضحك لها في النهاية قائلاً، إنه مجرد «مقلب» في الكاميرا الخفية؟ وهل يجوز تعذيب أجنبية «هيلتون»، ويظل المقدم يحتضنها طوال الحلقة، ثم يقول لها إنها في مقلب تلفزيوني وتردُّ عليه: موقف مجنون! فيضحك معتقداً أنه حققَ نصراً! والشيء نفسه حصل مع حلقة الفنان عبدالله بالخير، الذي ظل هادئاً طوال الفوضى والضجيج والرائحة الكريهة التي ينفثها المقدم داخل الطائرة، ولم يفاجأ حتى بعد نزوله من الطائرة، وكانت حلقة سلبية جداً. والشيء ذاته حصل مع الفنان أحمد بدير.
إن الأمر يحتاج إلى قرار، ولئن خرجت الكلمة والصورة عن وقارهما، وتمت «وحشَنة» البرامج، بعرض صور النحر والإيذاء والحرق والبراميل المتفجرة في الأخبار، فلا يجوز أن يطال ذالك الإيذاءُ والعبثُ برامجَ التسلية، التي تُنتج أساساً من أجل راحة وتسلية الإنسان، لتفقد التسلية معناها الأسمى وتدخل دائرة التعذيب التي لا يُقرها عرف ولا قانون.