أفكار وأضواء / ضحايا ولاية الفقيه (1 – 2)
خليل علي حيدر
كانت الثورة الإيرانية مفاجأة محرجة للطوائف الشيعية، حيث باغتتهم أحداثها دون استعداد، وقلبت شعاراتها مؤسساتهم المذهبية وأفكار شبابهم دون أن تكون شعاراتها الإيرانية البحتة، كما في الكويت مثلا، معبرة عن مصالح الشيعة أو قدراتهم أو وضعهم الطائفي أو ظروف معيشتهم أو علاقتهم بالسلطة، وأشياء كثيرة أخرى.
يتساءل كثير من المهتمين بالعلاقات العربية الإيرانية، والروابط السنيّة الشيعية، لماذا برز هذا التضارب في رؤية مصالح الشيعة بين إيران والخارج؟ ولماذا تتزايد عزلة إيران سياسياً وطائفياً عن الأوساط السنية وعن الكثيرين من الشيعة حتى داخل إيران؟ ولماذا لم يلتف معظم الشيعة أساساً حول محور ولاية الفقيه وحول ‘المرشد الروحي’ لأعظم تجاربهم في الحكم منذ قرون؟
فقد تعني ‘ولاية الفقيه’ اليوم لدى المؤمنين بها والمتحمسين لها معاني وقيما كثيرة دينية وشرعية وحتى طائفية وسياسية، غير أن ولاية الفقيه في واقع الممارسة، كما يشتكي الكثير من رجال الدين وفقهاء الشيعة، ليست أكثر من هيمنة قهرية لتيار فقهي شيعي واحد على بقية التيارات، واستخدام مؤسسات الدولة وإمكاناتها لترجيح تفسير واحد على سائر التفسيرات داخل المذهب، بل تعني كذلك تغليب التفسير السياسي والمصلحة المؤقتة للنظام الديني المذهبي في إيران وحدها- لا العراق ولا لبنان ولا دول الخليج ودول آسيا- على المداولات والتفاسير المتعددة للنصوص، وبشكل بات يهدد مصالح معظم الشيعة ومستقبلهم خارج إيران خاصة، ولا شأن لنا هنا بشيعة إيران ورؤيتهم لمصالحهم.
كانت الثورة الإيرانية عام 1979 تتويجاً لتجارب معقدة طويلة وتاريخ متراكم ومؤلم من الاستبداد السياسي ومحاولات التغيير، وكانت الثورة بالطبع تعبيراً عن إرادة قوى الشعب الإيراني بقومياته ومحاولتهم تحسين ظروفهم المعيشية ونيل حرياتهم، لكن هذه الثورة لم تكن ثورة لطوائف الشيعة خارج إيران في كل مكان، حيث تتعدد مجتمعاتهم ومستوى معيشتهم وعلاقاتهم السياسية والاجتماعية ببلدانهم وغير ذلك، بل كانت الثورة في أحيان كثيرة مفاجأة محرجة للطوائف الشيعية، حيث باغتتهم أحداثها دون استعداد، وقلبت شعاراتها مؤسساتهم المذهبية وأفكار شبابهم دون أن تكون شعاراتها الإيرانية البحتة، كما في الكويت مثلا، معبرة عن مصالح الشيعة أو قدراتهم أو وضعهم الطائفي أو ظروف معيشتهم أو علاقتهم بالسلطة، وأشياء كثيرة أخرى.
وكانت أولى مشاكل الشيعة عام 1979 كيفية التعامل مع دعاية الثورة وحماس أنصارها والفتاوى الطائفية التي هيمنت على بصيرة الكثيرين منهم، واستمرت مع البعض منذ ذلك الحين! فلا يخفى أن الشيعة هم ‘أغلبية’ الشعب الإيراني، وفي إيران لا يعتبر الشيعة أنفسهم ‘طائفة’ أو ‘أتباع مذهب’، تماماً كما لا يعتبر أهل السنّة أنفسهم ‘طائفة’ في العالم العربي مثلا، ويعتبر الجانبان الشيعي في إيران والسني في العالم العربي، أن فهمه للدين وممارسته التعبدية له هو ‘الإسلام الصحيح’، ويقال إن الإيرانين فوجئوا وهم يشاهدون فيلم عمر المختار، والمجاهد الليبي يتوضأ للصلاة، بأن وضوءه يتم على طريقة أهل السنّة!
شاركت قوى سياسية عديدة في الثورة، وكان المتوقع حتى من أوساط الفقهاء والمراجع المتدينين مثل ‘بازرجان’ الذي تولى رئاسة أول وزارة بعد الثورة، أن تقوم في إيران دولة ديمقراطية تعددية وانتخابات حرة وبرلمان من أغلبية وأقلية، كما في تركيا وباكستان ودول إسلامية أخرى اليوم، غير أن الإسلاميين ورجال الدين هيمنوا عليها، قبل أن ينفرد بالسلطة أنصار ‘آية الله الخميني’، ويهيمن ‘الولي الفقيه’ على مقدارتها، دون أن يسمح لأي معترض بكلمة!
سنحاول في هذه المقالات وباختصار، تذكير أنفسنا والشباب الذين لم يعايشوا هذه الثورة قبل 35 سنة، استعراض بعض القوى والتيارات التي شاركت فيها، كي ندرك بعض ما جرى فيها، وبعض التصورات والتوقعات التي لم تنجح أو جرى تنحيتها وقمعها من أنصار ‘ولاية الفقيه’.
إن الكتب والمقالات عن ثورة إيران الإسلامية بالآلاف، والكثير من تفاصيل الثورة معروفة لا داعي للخوض فيها إلا بالقدر الذي يقدم موجزاً لها، وقد صدر في الكويت ضمن سلسلة علام المعرفة كتابان قيمان عامي 1999 و2014 عن تاريخ إيران الحديثة، وسنحاول الاعتماد عليهما. الأول لباحثة مصرية، د. آمال السبكي بعنوان ‘تاريخ إيران السياسي بين ثورتين: 1906-1979’، والثاني بعنوان ‘تاريخ إيران الحديثة’ للأكاديمي الإيراني المعروف ‘أروند إبراهيميان’.
أفرز الصراع مع النظام الملكي، وفق تحليل د. السبكي، ست مجموعات متميزة لكل منها مصالحها الخاصة وأساسها الاجتماعي، وتوجهها الفكري الذي تبلور بصورة أوضح بعد نجاح الثورة، وبعد أن باشر رجالها شؤون الحكم كان أول هذه القوى ‘الثوريين الراديكاليين’، كما تسمي الباحثة جماعة آية الله الخميني، التي كانت تضم أعدادا غفيرة من تلاميذه السابقين، ممن نجحوا في تكوين شبكة واسعة من صغار التجار والملالي وعمال الورش الصغيرة. وكان لهذه المجموعة ثلاثة أهداف رئيسة: استمرار التظاهرات والاضطرابات حتى ينهار النظام، حيث لم يكن السيد الخيمني يؤمن بمبدأ الحلول الوسط، والهدف الثاني حشد الجماهير من الطبقة الوسطى وتعبئتهم إذ ساهموا بفعالية في التشهير بنظام الشاه وعمالة الاستعمار، وشجعوا مشاركة المرأة على نطاق واسع، ليس للمساهمة في الثورة فحسب بل في الانتخابات في ظل’ الجماهير الإسلامية’ التي سرعان ما أُعلنت. أما الهدف الثالث الذي تكتمت عليه جماعة السيد الخميني، بعيداً عن القوى الأخرى المشاركة، فكان استبدال حكم الشاه بجمهورية إسلامية ‘تعتمد في إدارة شؤونها السياسية والاجتماعية على طائفة من علماء وفقهاء الدين، وتحويل المحاكم المدنية إلى محاكم شرعية، والانفراد بتطبيق الأحكام المتشددة بعد أن أصبح رجال الدين والأئمة في المساجد يتمتعون بسلطات تفوق سلطات نواب الشعب المنتخبين، وتم تكليف الفقهاء بإدارة شؤون الإيرانيين بعد إعلان قائد الثورة أن رجال الفقه قادرون على إدارة الدولة، وأن جميع ما يحتاجون إليه من قوانين تتعلق بإدارة الدولة موجود في الأحكام الإسلامية.
وقد حاولت قيادات هذه المجموعة برئاسة ‘آية الله بهشتي’ وخامنئي ورفسنجاني تكوين ‘الحزب الجمهوري الإسلامي’ عام 1978 ليكون طليعة للثورة الإسلامية في ظل قيادة ‘الإمام الخميني’، ثم تحوّل ليصبح هو الحزب الحاكم بعد نجاح الثورة، ولكن بحلول عام 1987 تعرض هذا الحزب للإلغاء بأمر الخميني وبتوصية من قياداته ذاتها التي استندت في طلب الإلغاء إلى استنفاد الحزب الغرض من قيامه وخشيتها من تحوله فيما بعد إلى سبب للفرقة والخلاف’ (موسوعة العلوم السياسية، جامعة الكويت 1994، ص1175).
كان ‘المتدينون المعتدلون’، كما تسميهم د. السبكي ثاني القوى المساهمة في الثورة، وعلى رأسها آية الله شريعتمداري، رجل الدين القيادي في ‘قم’ قبل وصول الخميني من فرنسا، وكان للجماعة أنصار عديدون من التجار الأثرياء وعلماء الدين في أذربيجان موطن شريعتمداري الذي كان يعتقد أن هناك تضاربا واضحا بين سلطة ‘الفقيه’ المطلقة، وبين ‘رئيس’ الجمهورية الذي يفرض السيادة الوطنية للدولة، ‘ومن ثم كان يرى أن يحتفظ الفقهاء والعلماء الكبار بدورهم في إرشاد وهداية الناس، وألا يتدخلوا في إدارة الأمور المدنية إلا عند الضرورة كحالة عدم وجود حكومة. وكانت المجموعة لا تنادي بهدم الملكية البهلوية إنما بتحويلها إلى ملكية دستورية طبقا لدستور عام 1906، ولكن بعد الثورة ونجاحها كانت المجموعة تنادي بنظام سياسي متعدد الأحزاب يستطيع كل حزب المشاركة في صنع القرار عن طريق الانتخابات الحرة، وأن لنواب الشعب وحدهم دون العلماء حق إدارة الدولة، وعلى رجال الدين عدم التدخل إلا عندما تنتهك الشريعة الإسلامية فقط. وكان كثير من رجال الدين الشيعة يؤيدون ‘شريعتمداري’ في الخفاء خوفا من بطش أنصار الخميني’. (تاريخ إيران السياسي بين ثورتين، ص 227).