أفكار وأضواء / الإسلاميون كذلك من ضحايا ‘ولاية الفقيه’ (2)
خليل علي حيدر
تأثر مفكرو الثورة الإيرانية وقادتها بأفكار الحركة الإسلامية العربية ومنها حركة الإخوان المسلمين وحزب التحرير والكتابات الإسلامية الباكستانية والهندية، حيث ترجمت معظم هذه الكتب خلال النصف الثاني من القرن العشرين إلى اللغة الفارسية وأثرت مضامينها في فكر الثورة الإيرانية بمختلف تياراته، كما تطورت علاقات اجتماعية وسياسية مباشرة بين الإسلاميين العرب والإيرانيين في مراحل لاحقة في العراق وسورية ولبنان ومصر والعواصم الأوروبية.
فنحن نرى سيد قطب في كتاب ‘معالم في الطريق’ يتساءل: كيف تبدأ عملية البعث الإسلامي؟ ويجيب: ‘لا بد من طليعة تعزم هذه العزمة، وتمضي في الطريق. تمضي في خضم الجاهلية الضاربة الأطناب في أرجاء الأرض جميعاً. تمضي وهي تزاول نوعاً من العزلة من جانب، ونوعاً من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة’. وبالمثل، يطالب د. شريعتي ‘بضرورة أن تكون هذه الطليعة من مثقفين إسلاميين تقدميين لا من رجال الدين ولا من العامة أو المثقفين ذوي الميول الغربية، لأن المثقفين المسلمين هم وحدهم القادرون على شرح الواقع الإسلامي بلغة مفهومة للجماهير‘.
وبمثالية يحسده عليها سيد قطب، يدعو د. شريعتي المثقفين المسلمين ‘إلى قيادة الجماهير في ثورة مزدوجة، أي ثورة وطنية لإنهاء السيطرة الأجنبية وإحياء التراث الثقافي الإسلامي، وثورة اجتماعية لإنهاء جميع أشكال الاستغلال من خلال القضاء على الرأسمالية وإنشاء المجتمع التوحيدي’. إذ يرى د. شريعتي، متتبعا خطى ‘قطب’ كذلك ‘أن هناك نوعين من المجتمعات، مجتمع قائم على التوحيد وآخر على الشرك’. (الفكر السياسي الإيراني، د. سلطان محمد النعيمي، أبو ظبي، 2009، ص64).
بل كانت مهمة د. شريعتي أعقد في بعض جوانبها من مهمة سيد قطب، إذ كان المتوقع من د. شريعتي كذلك دمج التراث الشيعي مع هذه الأيديولوجية، وأن يجد لها مكانا في مخططه الحركي. واصطدم د. شريعتي بالمؤسسة الدينية الشيعية وبمن على رأسها من علماء فقه ومراجع تقليد، المدافعين عن الموروث المذهبي الذي كرس د. شريعتي جهده لمحاربته، ولا شك أن الكثير من آراء وأفكار د. شريعتي حول التشيع قد استفزتهم بلا شك.
والأرجح كذلك أن د. شريعتي أثار حفيظة رجال الدين والمراجع الفقهية بسبب إثارته عداء الأثرياء و’إلقاء الشبهات على الطبقات الغنية المتحدة مع رجال الدين والتي تخشى المضامين الراديكالية لأفكاره’. (الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، حميد عنايت، ترجمه عن الفارسية د. إبراهيم شتا، القاهرة، 1989، ص306).
لم يدرك الإيرانيون جيداً يومذاك مخاطر الاستبداد الديني، ولم تكن المطالبة بالعلمانية الليبرالية من المطالب الواضحة لدى أغلب قوى الثورة التي أشرنا إليها، غير أن زعامة آية الله الخميني للشعب كذلك، كما تؤكد الباحثة د. آمال السبكي، لم تكن موضع اتفاق الجميع كما شاع وانتشر، والادعاء بأن جميع رجال الدين قد أيدوا ريادته الدينية والسياسية لم يكن صحيحاً ‘لأن المعارضة لولاية الفقيه من داخل رجال الدين أنفسهم كانت أكبر مما تصوره الباحثون، ناهيك عن المعارضين لمبدأ ولاية الفقيه من الجماهير الإيرانية المثقفة، ولا أدل على ذلك، في رأي د.السبكي، ‘من وجود ستة تيارات متباينة داخل التجمع الديني وحده، رغم أن المواطنين رحبوا بالثورة، لا حباً في رجال الدين أو ثقة بقدرتهم على إدارة الدولة، بقدر ما كان ترحيباً بالقوة التي استطاعت التخلص من مفاسد الأسرة البهلوية’. (تاريخ إيران، د. آمال السبكي، ص232).
وكان نجاح الخميني مدينا في جانب منه لغياب أي زعامات سياسية مناظرة بعد أن ‘تلوثت’ سمعة السياسيين الإيرانيين بتعاونهم مع الشاه المخلوع والصراعات السياسية، وهناك من يعزو نجاح آية الله الخميني إلى المؤامرات الأميركية والإنكليزية والفرنسية، وهي اتهامات توجه عادة لكل الثورات والحركات في دول الشرق الأوسط، بما فيها الثورة المصرية عام 1952 وربما الأحداث الراهنة ضمن ثورات ‘الربيع العربي’. (حول جوانب من اتصالات الثورة الإيرانية بالولايات المتحدة وفرنسا، انظر كتاب د. إسماعيل الشطي، هوامش ص 101- 102).
وترى د. السبكي أن آية الله الخميني وجناحه الإسلامي نجحا في حسم الأمر لخمسة أسباب:
الأول، نجاح الشاه في سحق أو محاصرة الأحزاب السياسية بمختلف الطرق، حيث لجأ في نهاية الأمر إلى تشكيل حزب واحد للدولة أسماه ‘رستاخيز’، أي النهضة أو البعث! وفي الوقت نفسه ‘أهمل تماماً قوة رجال الدين، حيث تركهم داخل أروقة المساجد يشحنون طلابهم بما يريدونه داخل حلقات الدرس سواء في الحوزة العلمية- أي المدرسة الدينية أو كلية الشريعة- أو خارجها، كا تركهم يدعمون أواصر صلاتهم بالبازارات المنتشرة في جميع أرجاء الدولة. (ص233).
الثاني، لجوء الشاه للقوة العسكرية في إخماد التظاهرات التي بدأت مع مطلع عام 1977، وازدادت فيما عرف بمذبحة الجمعة السوداء- 8 ديسمبر 1978- فأجج الميول الثورية والعنف المضاد، بل أفقد هذا العنف تعاطف الجبهة الوطنية وبعض كبار رجال الدين مثل آية الله شريعتمداري، مما دفعهم للالتحام بالخميني، متجاوزين ما بينهم من فوارق، كما أن استخدام العنف المضاد من السلطة ‘هيأ للخميني فرصة نادرة ليعلن مبدأه الأساسي الرافض للحلول الوسط والداعي لردع العدوان بأشد منه تحت مظلة الجهاد الإسلامي‘.
الثالث، احتكار الإسلاميين لثقافة الشارع السياسية، إذ صعب في ظل مناخ الثورة الصاخب أن تعمل المجموعات الوطنية التقليدية التي كانت تضم المثقفين والنخبة الفكرية الإيرانية وسط جماهير المدينة، ‘وكان رجال الدين يطلقون عليهم ألقاب ‘ذوي ربطات العنق’ أو ‘موظفي الحكومة الموالين للشاه’، كما كانوا ينعتونهم بأنهم أهل التقليد الأعمى للغرب، وبأن الليبراليين بصفة إجمالية معادون للإسلام تجب مقاومتهم’، ومن ثم لم يجد معارضو الإسلام السياسي والجماعات المتزمتة الفرصة للوصول إلى الناس والمناخ الصالح لتوعية الناس بمخاطر تسلط التيار الديني وانفراده بالدولة، وهكذا، ‘احتكر رجال الدين جميع المنابر’. (السبكي، 234).
الرابع، استفادة آية الله الخميني من فترة الاغتراب لبلورة شعاراته، ورسم أيديولوجية بسيطة تستقطب بسطاء وفقراء الشعب، في الوقت الذي انشغل فيه رجال الدين الأثرياء بعلاقاتهم المتشعبة بالبازارات، مما أبعدهم عن جمهور ‘المستضعفين’، ولهذا لم تجد مطالبتهم بالديمقراطية والليبرالية آذاناً صاغية لدى الفقراء والبسطاء، ‘بينما نادى أنصار الخميني بإعادة توزيع الثروات، ونقل السلطة من الأثرياء للفقراء، والقضاء على الفساد المستشري في كل مكان، وتسهيل تقديم قروض لصغار المزارعين، وإمداد القرى بالتيار الكهربائي، وضمان تقديم القروض بفوائد ضئيلة، علاوة على بناء المدارس والعيادات والطرق وتوفير المسكن المناسب للمستضعفين (الفقراء)، فاكتسبوا من وراء ذلك شعبية تضاءلت أمامها شعبية التيارات الأخرى‘.
ونلاحظ هنا أن تيار الخميني قد اختطف معظم أهداف الجماعات الوطنية والسيارية وشعاراتها، وأفرغها من مضامينها، ليطبقها بما يضمن بقاء حكومة ولاية الفقيه التي كانت الجماعة تنوي إقامتها… وافق من وافق واعترض من اعترض.
السبب الخامس في تحليل د. السبكي لنجاح هذا التيار ‘صفات السيد الخميني المعروفة، والتي تمثلت بالذكاء والوقار والقدرة على جذب المستمعين بحديثه الخلاب’، وكذلك إلى جانب هذا، طريقة معيشته المتقشفة التي تشبه حياة المتصوفة، والتي جمعت حوله المستضعفين، وتضيف السبكي ‘فقد كان نموذجاً للحدة والثبات على المبدأ ورفض كل أنواع الرشوة… لذلك أضفت صفاته القيادية عليه الزعامة المطلوبة التي أنجحت الثورة‘.