أفكار وأضواء – كوابيس إيران.. وخيبات العراق
خليل علي حيدر
لم يعرف التاريخ على الأرجح ثورة سياسية كبرى لم تنحرف عن بعض أهدافها أو كلها أو تسرق شعاراتها أو تقع ضحية لطموحات قادتها وصراعات الأجنحة، أو تخضع لبعض الضغوط الخارجية، وغير ذلك.
هكذا مثلا كان مصير الثورة الفرنسية 1789، قبل نحو قرنين وربع، أولى ثورات العصر الحديث التي أطاحت بأشهر سلالة ملكية أوروبية، وأعدمت الملك والملكة وكثيرين غيرهما من النبلاء وغير النبلاء!
رفعت الثورة أجمل الشعارات، وتم التمهيد لها بأروع الأفكار والكتب، ثم انزلقت في نفق الإرهاب والتصفيات وحكم الغوغاء، قبل أن يقتطف ثمارها القائد نابليون بونابرت، الذي تحول إلى أعظم تحد عسكري في أوروبا، وأبرز مدافع عن ‘تصدير الثورة’ في المشرق والمغرب، فتنادت سائر قيادات أوروبا وجيوشها للتخلص منه وسحق جيشه مع شعاراته، وتعاون ضده الإنكليز والألمان والروس والنمساويون، وهزموه هزيمة منكرة في واترلو، التي مرت ذكراها المئوية الثانية في الصيف الماضي.
أجرت الثورة الفرنسية الكثير من الإصلاحات، وأرست أسسا عدة في مجال السياسة والقانون والمؤسسات، غير أن فرنسا تخلصت من ملك لتحصل على إمبراطور!
شهد العالم في القرن العشرين ثورات لا تحصى، كان أبرزها الثورة الروسية في أوائل القرن، والصينية، ثم الإيرانية الإسلامية في الربع الأخير منه، ولم يبدأ العقد الثاني من القرن الذي يليه حتى جاء دور العالم العربي، الذي كان قد حبس نفسه طويلا، فانفجرت فيه ثورات متوالية كالدومينو!
ولم تكن ثورة 1979 الإيرانية استثناء في هذا المجال، والواقع أن معظم الخليجيين والعرب قد صدموا سياسياً في العقود الأخيرة مرتين.. وبقوة شديدة! كانت الصدمة الأولى مع انحراف الثورة الإيرانية التي جعلت تلك البلاد تعيش حالة مخاض ثوري على امتداد عام كامل ونيف قبل أن تنتصر على النظام السائد، وهي الثورة التي رفعت شعارات تحررية وديمقراطية مدوية، ووعوداً براقة اجتذبت الجميع، وبدت في ذلك الوقت لنا وكأنها ستفتح فصلاً جديداً في العلاقات الخليجية والعربية، تُنسي شعوب المنطقة تاريخاً طويلا من التوتر وتردي العلاقات والشكوك.
قدمت تلك الثورة نفسها لجيلنا يوم ذاك، وكأنها نجم بالغ السطوع في الأفق أو كما يسميها الفلكيون Super Nova! ثم ما لبثت أن فقدت طابعها التحرري الديمقراطي وشعاراتها البعيدة عن الطائفية، لتتقلص مثل ‘السوبر نوفا’ كذلك، إلى كتلة من الآمال المحطمة والتوقعات الخائبة.
لم تكن هذه ثورة الإيرانيين الأولى في ذلك القرن، القرن العشرين، الزاخر بالثورات والحروب وسقوط العروش، فقد عرف الإيرانيون مع بداية القرن ثورة دستورية عام 1905 توجت بافتتاح برلمان عام 1906 لم يستمر طويلاً.
انقسم رجال الدين وكبار الفقهاء حول تلك الثورة ومبرراتها، وكان البعض محافظاً والبعض مع الثورة.
في مدينة ‘مشهد’ الدينية مثلا، هجم البعض على أحد المتاجرين بالذرة، بعد قيام تمردات الخبز وكان هذا ذا نفوذ وعلى صلة بالقصر، فعمد بإصدار أوامر لحرسه الخاص بإطلاق النار ليسقط نحو أربعين من المحتجين الذين التجؤوا إلى حرم العتبات المقدسة للإمام الرضا في هذه المدينة، وقد حاول أحد رجال الدين المحليين شرح مزاج التمرد الثوري للسلطات فقال: ‘صاحب الجلالة إن مملكتك تتدهور ورعيتك قد وصلوا إلى حد التسول، لقد تم قمعهم واستغلالهم من الحكام والمسؤولين الذين لا يعرف طمعهم وعطشهم للدماء أي حدود. في العام الماضي كان على دافعي الضرائب الذين لا يستطيعون دفع الضرائب بأموال سائلة بيع بناتهم للتجار التركمان والأرمن الذين كانوا يبيعونهن بدورهم كعبيد في روسيا الآلاف من رعيتك اضطروا إلى الهروب من هذا القمع وذهبوا إلى روسيا… ولو لم يعثر على العلاج، فإن البلد سيتفكك. وسوف يأخذ البريطانيون سيستان وبلوشستان، وسيأخذ الروس أجزاء أخرى من البلاد، ولدى العثمانيين خطتهم… جلالتك، استمع الى حالة خمسة عشر مليون روح تعيش في خوف من أن يقوم الأجانب بسجنهم’.
(تاريخ إيران الحديثة، أروندا إبراهيميان، الكويت، 2014، ص68، عن كتاب تاريخ الدستور الإيراني لأحمد كسروي).
وكان خطباء آخرون يبدون استياءهم من الأوضاع ضمن دائرة أوسع، ويرون بعض رجال الدين شركاء في صنع الأوضاع التي يثور الشعب عليها. يقول أحدهم في خطبة عام 1907 ما يلي: ‘آه يا إيرانيون! آه يا إخوة بلدي الحبيب! إلى متى سيظل هؤلاء الغدارون يخدرونكم ويبقون عليكم نائمين؟ كفى هذا التخدير ارفعوا رؤوسكم، افتحوا أعينكم، ألقوا بنظرة خاطفة حولكم، ولاحظوا كيف أصبح العالم متحضراً، فكل العبيد في إفريقيا والزنوج في زنجبار يتجهون نحو الحضارة والمعرفة، والعمل والغنى، لاحظوا جيرانكم الروس، الذين كانوا منذ مئة عام مضت في ظروف أسوأ من ظروفنا، ولاحظوا كيف أصبحوا الآن يمتلكون كل شيء، في أيام الماضي القديم كان لدينا نحن كل شيء، والآن كل شيء ذهب، في الماضي كان الآخرون ينظرون إلينا كأمة عظيمة، والآن انحطت مرتبتنا إلى درجة أن جيراننا في الشمال والجنوب يعتقدون بالفعل أننا جزء من ملكياتهم ويقسمون بلدنا بينهم، نحن ليس لدينا بنادق، ولا جيش، ولا أمان مالي، ولا حكومة مناسبة، ولا قانون تجاري، كل هذا التخلف يعود إلى حكم الفرد وعدم العدالة وافتقاد القوانين، وأيضا لخطأ رجال الدين، وذلك لأنهم يدّعون أن الحياة قصيرة، وأن الحياة الدنيا ما هي إلا حياة الغرور. وهذه الخطب والمواعظ تقودكم بعيداً عن هذا العالم، تقودكم إلى الخضوع، والعبودية، والجهل والملوك، في الوقت نفسه، ينهبونكم، ومع كل هذا يأتي الأجانب الذين يتسلمون منكم كل أموالكم، ويعطونكم في المقابل أقمشة خضراء وزرقاء وحمراء وأواني زجاجية مبهرجة، وأثاثا مرفهاً. هذه هي أسباب بؤسكم’. (المصدر نفسه. ص57-58).
تحدث الباحث البريطاني المعروف د. فريد هاليداي HalIiday في كتابه المترجم بعنوان ‘الإسلام والغرب: خرافة المواجهة’. (بيروت 1997). عن الميزات والظواهر التي انفردت بها الثورة الإيرانية 1978- 1979 (ص 53-54) فقال ‘إن ما تنفرد به الثورة الإيرانية على الصعيد الديني أنها جعلت الدين بارزا في النصف الثاني من عقد السبعينيات، وجعلته ينجح في إسقاط النظام القائم’.
ويقول الباحث، لكن الثورة الإيرانية اتصفت بسمات ‘حديثة جداً’ في الوقت نفسه، وإذا كانت الثورة الإيرانية أول ثورة معاصرة ترتكز على الدين في توجهها، فإنها كانت أيضا أول ثورة ‘حديثة’ على الإطلاق.
يقول ‘إن هذه الحداثة تتجلى في أربعة أوجه’:
أ- قامت الثورة في مجتمع ثري نسبياً ومتقدم، ‘يفوق في تطوره من نواح رئيسة- على الصعيد الاقتصادي- الاجتماعي روسيا في عام 1917 أو الصين في عام 1949، وكان نصف السكان يعيشون في مناطق مدنية ونصيب الفرد الواحد من الدخل يزيد على 2000 دولار، ومهما يكن توزيع هذا الدخل متفاوتاً فإنه كان يعني أن غالبية الإيرانيين المدنيين- أي أهل المدن- في حال أفضل منها قبل عقد من الزمان’.
ب- وقعت الثورة الإيرانية، على النقيض من كل ثورات العالم الثالث الأخرى، في المدن ‘ولعل كثيرين ممن شاركوا فيها كانوا فلاحين، أي ذوي أصول فلاحية، ولكنها كانت حدثا مدنياً أفرزته ظروف المكان الكبيرة في السبعينيات. والتعارض مع الصين وفيتنام وكوبا شديد الوضوح’.
ج- ومرة أخرى في سمتها الثالثة، وعلى النقيض من ثورات عالم ثالثية أخرى، انطلق الانفجار الإيراني ‘من خلال مواجهة سياسية لا من خلال صراع مسلح، فإن ألوفاً قتلوا في الأشهر الأخيرة من نظام حكم الشاه لكنهم كانوا في الغالب متظاهرين عزلا وليسوا مقاتلين مسلحين، ولم ترتد المقاومة طابع المواجهة المسلحة إلا في الأيام الأخيرة من حكم الشاه، ففي الأشهر السابقة لسقوط الشاه كانت الثورة تترجم نفسها عن طريق التظاهرة في الشارع والإضراب العام السياسي، وأشكال أخرى من المعارضة شبيهة بما عرفته الثورات في أكثر البلدان الغربية تقدماً’.
د- وأخيراً، جاء سقوط النظام القديم ‘دون أن يكون قد اعتراه الضعف من خلال مجابهة مع أي قوة خارجية، مما يحتم التخلص منه لإزالة نظام حكم سلطوي، فلا هزيمة في حرب ولا ضغط اقتصاديا دوليا خطيرا ساعد تقدم الثوريين الإسلاميين، وهم أنفسهم لم يتلقوا معونة تذكر من الخارج’.
وهكذا يعتبر فريد هاليداي أن أصالة الثورة الإيرانية لم تكن تكمن في طابعها ‘التقليدي’ ولا في طابعها ‘الحديث’ وإنما في تفاعل الاثنين معاً.
ويضيف أن الجمع بين السمتين ‘هو الذي يفسر نجاح الثورة وخصوصيتها في مراحلها الأولى، ولكن تباعد الاثنين أيضا، بصورة متزايدة، هو الذي تسبب في تعقيد إقامة نظام ما بعد الثورة، والواقع أن ما جرى للثورة الإيرانية بعد عام 1979 لم يكن ‘تعقيدا’ فحسب، بل كان ضياعاً وتبديداً!
كان انحراف وضياع الثورة الإيرانية بعد عام 1979 عن الأهداف والشعارات المعنية خيبة أمل الخليجيين الأولى، فما الثانية؟ جاءت الصدمة الثانية بعد قرابة ربع قرن من ثورة 1979 الإيرانية، مع الإطاحة بنظام دكتاتور العراق 2003 فقد حلم الجيل نفسه، ضمن أحلام يقظته، أن يتحول العراق بعد التخلص من ذلك النظام المستبد الدموي، إلى قوة ديمقراطية وتحديث واعتدال وغير ذلك، تخفف بعض الشيء أحزان ‘الجيل الخائب’، وتقدم بعد طول انتظار نموذجاً طال انتظاره من الأنظمة الجديدة، غير أن مسار الأحداث بعد ذلك خيب الآمال.
فمن كان يصدق عام 2003 أن العراقيين سيفشلون إلى هذا الحد في إدارة بلادهم بعد الخلاص من الطاغية؟ وأن النخبة السياسية العراقية بهذه الدرجة من الإفلاس الجماهيري والإداري والفكري؟ وأن الطائفية والعشائرية وشيوخ الدين والقبائل بهذه القوة؟ وأن العراق الجديد سيكون بهذا الضعف أمام تدخلات القوى والتنظيمات الإقليمية والجماعات الإرهابية؟ وأن كل ما كانت تقوله الأحزاب السياسية العراقية، بما فيها العريقة… كان حبراً على ورق ورسماً على الماء؟ بل إن الكيان العراقي ذاته سيجد نفسه خلال سنوات في وضع لا يحسد عليه!