يقول جوتفريد لايبنتس، وهو فيلسوف ألماني معروف: «غالبًا ما تولد الأشياء العظيمة من الأسباب الصغيرة»، وربما لا يُفهم هنا من قصد لايبنتس أنه كان يشير تحديدًا للصدفة كمعيار أساسي ساهم في صنع التاريخ، وتغيير مساره في كثير من الأحيان، إلا أنه أعقب جملته بتأكيد أن تاريخ الحروب –على سبيل المثال- في العالم ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالصدفة، ليؤمن بعده الفيلسوف الاستراتيجي «كلوسفتز» على كلامه بمقولة: «لا يوجد نشاط إنساني يرتبط أكثر وبشكل أساسي وعلى نحو كامل وكوني بالصدفة كالحرب».
من هنا يبدأ تقدير دور الصدفة في عوالمنا، تلك التي منحها الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير، لقب «صاحبة الجلالة»، وعرفها أحد مفكري القرن الـ19، أنطوان كورنو، باعتبارها «الالتقاء المتزامن لواقعتين لا يوجد بينهما رابط»، مؤكدين أن قدرتها دفعتها في كثير من الأحيان لتغيير مجرى التاريخ بالفعل، وساهمت بشكل أساسي في صناعته، وكتابته.
ربما لا يقتنع البعض بوجهات النظر تلك، إلا أن من شأن محاضرة ألقيت في 3 ديسمبر عام 2003، بالرباط في المغرب، حسم هذا الخلاف، بعد أن سرد المؤرخ جان نويل جيانيني -من المؤرخين الفرنسيين المرموقين- عدد من الوقائع التاريخية التي صنعتها الصدفة وغيرت مجرى الأحداث، ليمنح موضوعه عنوان: «الصدفة في التاريخ» -بحسب موقع «histoire»- ونستعرض من خلالها بعض الأحداث في التقرير التالي.
6. حرب إسبانيا
جون تشرشل، أو دوق مارلبورو الأول، كان قائدًا للجيوش البريطانية، وربما الصدفة هي التي منحته سلطته وألقابه، فقط لأنه تزوج من سارة جينينجز، والتي كانت تربطها بالملكة «آن» -ملكة انجلترا- علاقة صداقة حميمية، ولقبت بسيدة الشرف الأولى.
هذه الزيجة نفسها كانت سببًا آخر في تركه منصبه، وانتهاء حرب أسبانيا بتوقيع اتفاقية سلام، فقط لأن سيدة الشرف الأولى كانت تثير غيرة سيدة شرف أخرى تنافسها في صداقتها مع الملكة، وذات ليلة وأثناء التحضير لحفل راقص كبير بالقصر الملكي، طلبت الملكة «آن» من خياطتها إعداد قفازين جديدين لها ولسيدة الشرف الأولى، وهو ما أثار غضب سيدة الشرف الأخرى، ودفعها للذهاب لنفس الخياطة وطلب قفازات جديدة لنفسها أيضًا، لكن الخياطة اعتذرت لها لأنها حاليًا بصدد إعداد قفازين بأمر الملكة، فما كان من سيدة الشرف الغاضبة إلا أن حرضت الخياطة على تنفيذ قفاز سيدة الشرف الأولى قبل تصميم قفاز الملكة «آن»، وبالفعل نفذت الخياطة طلبها، ووصل الأمر للملكة، فاستشاطت غضبًا، وطردت سيدة الشرف الأولى من القصر، وأقالت زوجها قائد الجيوش البريطانية من منصبه، في أثناء حرب أسبانيا، والتي كان يرفض إنهائها بتوقيع معاهدة سلام، لكن إقالته سهلت نهاية الحرب، ووقعت المعاهدة فعلاً.
5. الحرب الأهلية الأمريكية
في يوليو عام 1863، وقعت أكبر حرب أهلية في الولايات المتحدة الأمريكية، بين قوى الشمال، وقوى الجنوب، وربما كان سبب منحها صفة «أكبر» أن تعداد قوات كل جهة وقتها تخطى 80 ألف جندي، وهو ما تسبب طيلة ثلاثة أيام في المعركة من توازن الأمور بين الطرفين، فلم يتضح إطلاقا أيهما حقق مكاسب على الآخر، لتلعب الصدفة دورها هنا، وتغير اللعبة تماما، ففي يوم 2 يوليو، يقرر الجنرال «لي» قائد قوات الجنوب، ارسال أحد ضباطه لاستكشاف الجناح الأيسر لقوات الشمال، ويخبره ما إذا كان يعاني خللا فيهجم عليه بالأسلحة والقوات ليضعف جبهة العدو.
نفذ الضابط تعليمات الجنرال، وبالفعل عاد وأخبره أن هناك خللا ما يظهر في صفوف العدو، والحقيقة أنه لم يكن خللا، بل تصادف مع ذهاب الضابط للاستخبار، صدور أمر من قائد قوات الشمال بإحداث تغيير استراتيجي داخل فرقته، بإحلال جنود الجانب الأيمن بدلا من الأيسر، وهي عملية لم تستغرق سوى 20 دقيقة، هي المدة التي ذهب فيها الضابط للاستخبار، ثم عاد لتبليغ جنراله، الذي أصدر أوامره بتوجيه جيمع قواته بإتجاه الجناح الأيسر، ومهاجمته، ليفاجأ بأن قوات العدو منتظمة بعد أن أخذت مواقعها من جديد، ويتسبب الأمر في خسارته لجيشه، وحسم المعركة لصالح قوات الشمال.
4. الحرب العالمية الثانية
في الحرب العالمية الثانية، ومع بداية الهجوم الجوي الألماني على انجلترا، عطى هتلر أوامره للطيران بعدم إلقاء القنابل على المدن، ليس رحمة منه، لكن لأنه يرى الأفضلية في قذف المطارات، والهجوم على الطائرات الحربةي الملكية، لتصبح عاجزة عن التحليق، وتتحطم قدرات الطيران الحربي البريطاني، وبالتالي تحسم الحرب الجوية لصالحه ويتمكن من غزو بريطانيا بسهولة.
تبدو الخطة محكمة، ومدروسة، إلا أن الصدفة لا تعرف طريقها لكل هذه الخطط والدراسات، لتقلب الموازين تمامًا، ففي هذه الليلة تشاء الأقدار أن يسود الضباب سماء لندن بصورة كثيفة ضعفت معها رؤية الطيران الألماني لأهدافهم المحددة، ليصيبوا أهدافًا أخرى مدنيّة، أدت لحدوث خسائر في أحياء لندن، مما دفع بريطانيا لرد الصفعة، بالهجوم الجوي على برلين، وتكبيدها خسائر بشرية كبيرة، ليُغير هتلر خطته، ويأمر بضرب لندن مباشرة، لتُهدر قذائفه في المدينة، ويدمر أجزاءً كبيرة منها، إلا أن الطيران الملكي البريطاني ظل محافظًا على مكانته الكبيرة، وانتصر على الأسطول الألماني في النهاية.
3. محاولة اغتيال هتلر
بمناسبة هتلر، لعبت الصدفة دورا كبيرا في حياته، ولنا أن نذكر واقعة شهيرة لولاها لأغتيل النازي، ففي 20 يوليو عام 1944، قرر الكولونيل كلاوس فون ستوفنبرج، بالتعاون مع مجموعة من الضباط، غتيال هتلر، واستغل اجتماعه بعدد من مساعديه ووضع قنبلة داخلة قاعة الإجتماعات، بالقرب من كرسي هتلر، إلا أن أحد الحاضرين وأثماء تحريكه لقدميه تحت الطاولة، ضايقته الحقيبة وقرر أن يرفعها من مكانها، ويبعدها في أقصى الصالة وراء طاولة أخرى من الخشب، لتنفجر القنبلة بعيدا عن هتلر وتحدث خسائر بشرية في آخرين، إلا أن الهدف الأساسي لم يتحقق منها.
تخيل وقتها لو انفجرت القنبلة كما كان مخططا لها! ربما كان ستتغير شكل الحرب العالمية تماما، وربما كانت ألمانيا ستطلب السلام مبكرا، وإيقاف الحرب بسرعة أكبر قبل أن تتسبب في كل هذه الخسائر البشرية، ويتحول موت هتلر لاغتيال، بدلا من انتحار، ويتغير شكل النازية، وشكل أوروبا بصورة مغايرة لما آلت إليه بعد نتائج الحرب.
2. محاولة اغتيال ديجول
نجى الجنرال الفرنسي شارل ديجول، من محاولة اغتيال مماثلة عن الطريق الصدفة أيضا، عندما قررت إحدى الجماعات إطلاق النار عليه أثناء عبور موكبه، وطلبت من أحد أعضائها أن يقف في مكان محدد ليعطي إشارته من خلف جريدة يقرأها عند وصول الموكب لمكان محدد، ليتم إطلاق النار على ديجول داخل سيارته.
كانت ليلة ممطرة، والطقس سيء، لدرجة صعبت على الشخص المنتظر خلف الجريدة مهمة إعطاء الإشارة في الوقت المناسب، مما أدى إلى إطلاق النار بعشوائية، لتصيب جانب السيارة، ويخرج الجنرال وزوجته من الحادث سليمين، ليقول جملته الشهيرة وقتها: « لقد حمتنا الرعاية الإلهية».
1. سبب اندلاع الحرب العالمية الأولى
في نفس سياق الاغتيالات، ربما كان نجاح اغتيال الأمير فرنسوا فرديناند، وريث العرش الهنغاري النمساوي، سببًا في اندلاع الحرب العالمية الأولى، لكن الغريب ان عملية الاغتيال ساهمت فيها الصدفة بشكل كبير، فبعد أن نجا من محاولة أولى بمحض الصدفة أيضا، نتيجة تباطؤ الفاعل في فتح القنبلة وإلقائها في الوقت المناسب، مما تسبب في إصابة أفراد موكبة في السيارة التالية لسيارته، يقرر الأمير أن يذهب في زيارة للمصابين في المستشفى، مع أخذا احتياطات بعدم سير الموكب في الحواري الضيقة لأنها خطيرة، إلا أنهم نسوا إخبار سائق السيارة الأولى في الموكب بهذا التحذير، ليكتشفوا فجأة أنه قادهم –دون قصد- إلى إحدى الحواري الضيقة، فيحاولوا تدارك الأمر بمحاولة الرجوع للخلف، ليزداد الأمر تعقدا بتعثر جميع السيارات وتوقف الموكب، وهنا انتبه الأمير ليرى سلاحا مصوبًا في وجهه تماما، أودى بحياته، وحياة آلاف البشر ممن قتلوا في الحرب العالمية الأولى بسبب حادثة الاغتيال تلك.