واقفًا في تواضع وخشوع ينظر إلى الأرض فيما تستريح إحدى الحمامات على ذراعه وتتمسح في قدميه معزة صغيرة، مشهد راح يتطلع له طفل صغير في قلب العاصمة الإيطالية روما لتمثال رجل قيل له إن اسمه القديس فرانسيس الأسيزي، صانع المعجزات من يقال عنه أن أحدًا لم يلتزم بتعاليم المسيح كما فعل هو. نظر الطفل نظرة أخيرة في أعين التمثال قبل أن يلف ويرحل دون أن يعلم أن خلف هذا القديس حكايات وروايات أكثر بكثير مما قيل له عنه، فمحل الأعين الإسمنتية قبل مئات السنوات كانت أعين حقيقية انعكست في مقلتيها معالم دولة عريقة أتاها باحثًا عن النصر أو الشهادة، قبل مئات السنوات كان صاحب التمثال رجلًا تملؤه الروح إيمانًا في طريقه إلى مصر من أجل هدف واحد، إقناع سلطان مصر الإسلامية باعتناق المسيحية، غير مدرك وهو على مشارف مدينة دمياط أن رحلته كانت لتغير حياته تمامًا.. وإلى الأبد.
العام 1218، الشرق الأوسط مشتعل، الصليبيون يهاجمون مجددًا، كما يروي الدكتور بول روت، في ورقته البحثية بجامعة لندن بعنوان St Francis of Assisi and Islam: a theological perspective on a ChristianMuslim
Encounter.
الحملة الصليبية الخامسة تصل إلى دمياط وتحاصرها، وجيوش مصر الإسلامية يقودها اليوم سلطانًا يحمل في دمه جينات النصر، فمن غيره يعرف طعم قهر الحملات الصليبية وهو قريب الناصر صلاح الدين نفسه، إنه السلطان الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، لكن الحال غير الحال والوقت غير الوقت والوضع غير الوضع.
دمياط تبقى عصية على المعتدين لكن الوقت ليس في صالحها، لا تزال تقاوم لكن قواها تقل يومًا بعد الآخر، وتبقى إرادة شعبها وقوته هي التي تمنع المدينة من السقوط، التاريخ يشير لحلول عام 1219، وتحديدًا الجزء الثاني من العام، الحرب لا تنتهي، هل هناك حل يكتب كلمة النهاية لهذه القصة التي تزداد سخافة مع الوقت؟ رجل واحد وجد الحل، «سأقنع السلطان بالمسيحية»، هكذا قال الراهب «فرانسيس» نفسه قبل أن يتحرك بالفعل تجاه دولة الحكم الأيوبي، مصر، حسب المؤرخ للحروب الصليبية، البروفيسير كريستوفر تايرمان، في كتابه How to Plan a Crusade: Reason and Religious War in the Middle Ages.
إما تحقيق الهدف أو الشهادة ربما، هل كان ليترك السلطان أحد أفراد العدو ليعود حيًا لبلاده؟ سؤال ربما دار بخلد «فرانسيس» وهو يرى هزيمة الصليبيين الوشيكة في أعينهم في معسكراتهم في دمياط، هؤلاء أنفسهم الذي حاول أن يقنعهم قبل السلطان بالتوقف عن القتال لكن مجهوداته راحت أدراج الرياح.
ترك من كان ليصبح قديسًا لاحقًا دمياط قاصدًا معسكر السلطان، أعزل من السلاح، كما يروى جاك دو فيتري في كتاباته، وهو الذي قابل «فرانسيس» في رحلته. وفي طريقه وقع «فرانسيس» في قبضة الجنود المسلمين، ليقول لهم: «أنا مسيحي»، قبل أن يطلب مقابلة السلطان. وبالفعل اقتاده الجنود ليقف في مواجهة السلطان الكامل، وقد جلس السلطان يستمع إلى الراهب حتى انتهى من دعوته له لاعتناق المسيحية، قبل أن يعطه الأمان للعودة إلى معسكرات الصليبيين قائلًا له: «ادع لي أن اتلقى إشارة من الله أي الأديان أكثر إرضاءً له».
وبقى «فرانسيس» ضيفًا على السلطان لمدة ثلاثة أسابيع، قبل أن يتم إعادته بحراسة من الجنود المسلمين إلى معسكرات الصليبيين، لكن الأسابيع الثلاثة لم يمروا عليه دون أن يتركوا فيه أثرًا كبيرًا، حيث دار خلالهما كثير من الأحاديث عن الأديان بينه وبين السلطان الكامل، لتكن كتاباته في سنواته اللاحقة دليلًا على عمق تأثره بلقاء السلطان الكامل ومدة مكوثه في معسكره.
وأبدى الراهب في رسالة كتبها عام 1220 إعجابه بآذان الصلاة لدى المسلمين، قائلًا: «يجب تكريم الرب بين الناس الذين يثقون بك بأن يحدث كل مساء أن يصيح منادي المدينة بكلمات التمجيد والشكر ويرددها كل الناس للرب القوي».
كما أبدى «فرانسيس» إعجابه بسجود المسلمين أثناء الصلاة، قائلًا إنه إشارة على الخشوع لله.
وفي رسالة آخرى بعثها لمجلس الأمناء اقترح «في كل ساعة وكلما رنت الأجراس، يتم تمجيد وتعظيم وتبجيل الرب القوي في كل أنحاء العالم، بهذا الشكل يتوحد المسلمون والمسيحيون في الصلاة، إشارة قوية في مجتمع به العديد من الكارهين للإسلام بشكل أعمى».
«فرانسيس» الذي ذهب إلى مصر لإقناع السلطان بالمسيحية ربما فشل في مسعاه، فلم يعتنق المالك دينه وظل على الإسلام، لكن الاثنين تعلما معًا درسًا عظيمًا في وقت عصيب، كان الدرس هو الاحترام، أو كما قال «روت» إن قصتهما معًا دليل مادي على أن: «عبر حوار الأديان، يمكن للأشخاص المعتنقين لأديان مختلفة أن يصلا إلى محل اتفاق لسلام عالمي وتصالح».
ليرحل الراهب الذي ذهب باحثًا عن الشهادة بسيوف المسلمين برؤية جديدة متسامحة ومتفهمة، ويبقى احترامه في قلب السلطان المالك كرجل سعى للخير، حتى وإن لم يدرك كل مسعاه، في زمن سدت فيه طبول الحرب آذان معظم البشر.