هُناك نُكتة اعتاد الآباء في قسم من العالم أن يشاكِسوا بها أطفالهم، أو أن يشاكسهم بها أطفالهم في رحلات التبضُع وشراء أغراض المنزِل، وهي: استحالة انتهاء أي رحلة تسوق بدون أن تحصل على بضاعة مدوّن عليها«صُنع في الصين»، إن لم يكُن أكثر من غرَض موقَعة بإمضاء صُناع الصين الشعبية.
وفي حين يقفز إلى الذهن سريعًا، وبالأخص في القسم من العالم الذي نعيش فيه، لعب أطفال رخيصة الثمن، وسريعة التلف، ورُبما ترجمة سريعة للجودة المتواضعة، أتى على الصين حين من الدهر أعجزت عشرات الصُناع الأوروبيين أن يُقلِدوا الخزف المُستورَد من الصين برسومه المُفرحة، فيخفقوا في كُل مرّة ويعجزهم تقليد دقة الصُنع.
في هذا التقرير، المصري لايت تُبحِر في «طريق الحرير» الذي يبتلع سفن الكنوز، وفي عقول أباطرة صينيين كرهوا التجارة وأغلقوا الصين على نفسها قرابة الخمسمائة عام مكتفية ذاتيًا.
6. الحرير وطريقه
في حديقة ملكية، وتحت ظلّ شجرة توت وارِفة، حسب أسطورة تاريخية غير مُحققة تمامًا، جلست «لي-تزو»، زوجة الإمبراطور تحتسي فنجانًا من الشاي الساخن من فضل منتجات الصين، ليسقط في فنجانها دودة قزّ من تلك التي كانت تتغذى على ورق الشجرة، فتتلقفها بيدها الملكية، وتبدأ في استكشاف الخيط الناعم الطويل الملفوف حول دودة القز، لتفكِر أنها بوسعها أن تغزِل من هذا الخيط ثوبًا ناعمًا يليق بالإمبراطور زوجها.
وعلى مغازل نول غزلت أول أثواب حرير في العالم في عهد الإمبراطور«هوانج دي»، حسب الأسطورة، ما يزيد عن ألفين وخمسمائة عام قبل الميلاد، لتحتكِر الصين سِر صناعة أفخم ألياف العالم اليوم حتى حين.
وعلى شرف هذا الغزل الذي أغرمت برفاهيته أغلب شعوب العالم القديم، وبالأخص الطبقات ذات اليسار منها والتي استطاعت تحمُل كلفته وكلفة استيراده للتباهي بارتداءه أو حتى الكتابة عليه، تم تعمير ما عرفه التاريخ بـ«طريق الحرير»، وهو في الواقع ليست طريق واحد وإنما شبكة من الدروب التي تسلُكها القوافل التجارية التي تربط الشرق بالغرب، أحدهما شمالي يصل شرق أوروبا للبندقية، وآخر جنوبي يصل إلى شمال أفريقيا.
جدير بالذكر أن أميرة صينية كذلك، حسب الأسطورة، هي من سربت سر صناعة الحرير إلى الهند، حيث هرّبت بضع دودات قزّ في ملابسها للهند، إلى حيث ستتزوج من أمير هندي، أربعمائة عام بعد الميلاد هذه المرة، ليأخذ الأمر قرونًا قليلة لينتقل السر إلى فرنسا وأسبانيا وسائر أوروبا، حيث لم يصبح سرًا بعد، غير أن الحرير الصيني يظل ذا خصوصية نظرًا لبراعة مكتشفيه في تطريزه وغزله.
5. سلالة «تانج» المتفتحة
نظام الحكم في الصين، ومن قديم الأزل يقوم على تسليم الحُكم بين السلالات والقوميات المختلفة التي تسهم كُل جارحة منها في تكوين التنين الصينيّ العظيم، وما بين سلالات تُحب السلام وتُعنى بالتعليم الروحي، وبين سُلالات يُغذي شغفها الحرب، وسلالات تولع بالبناء والتشييد، تأرجح تاريخ الصين.
سُلالة «تانج» واحدة من تلك السُلالات التي وصلت فيها حضارة الصين أوجها، وإلى الجانب الفنون والشعر والفلسفة، عاش العالم أزهى عصور تعمير طريق الحرير، وعبور الحضارة والمنتجات الحضارية من الصين وإلى العالم، والعكس صحيح.
عاشت سُلالة «تانج» في القسم الأخير من الألفية الأولى بعد الميلاد. في هذا الوقت كانت قائمة صادرات الصين غنية كما لم تكُن من قبل: فالورق الصيني على رأس القائمة الصادرات التي سطر عليها العالم تاريخه، والحبر، وبالطبع الحرير الصيني ظل مستمرًا في الوصول لكافة ممالك العالم القديم، حتى تكنولوجيا الحرب، وبواسطة «البارود» المبتكرة على الأرجح في الصين، صدرتها الصين للعالم، فضلاً عن الشاي الصيني الذي أغرمت به أوروبا فيما بعد.
وعلى ما يبدو أن درجة من التخصص في تصنيع المنتجات المستهدفة دول بعينها كانت قد عرفتها الصين في هذا الوقت المبكر، ففي حين ابتلع طريق الحرير بسبب وعورته عدد من السفن التجارية، فإن إحدى سُفن الكنوز التي عُثِر عليها مؤخرًا، وتعرف بـ«سفينة بيلتنج»، تُعَد كنوزها دليلاً على هذا التخصص: نقوشات زهرة اللوتس على الخزف الصينيّ الرامز دائمًا وأبدًا للبوذية حملته القافلة الغرقى لوسط آسيا، أما النقوشات الهندسية والآيات القرآنية التي تستهدف العالم الإسلامي، وحاضرته الثقافية والتجارية في بغداد، وغيرها.
ومن الأشياء اللافتة أيضًا في كنوز هذه السفينة وغيرها، أن تقنية من تقنيات المحافظة على الخزف الصيني في أثناء الشحن والتفريغ من التلف والتكسر ابتكرها التاجر الصيني من خامات البيئة وهي شحن الخزف وسط كميات من قش الأرز كخامة من مُخلفات البيئة.
4. تعاليم كونفوشيوسيّة
في القرن الثالث عشر، وصل الرحالة «ماركو بولو » إلى الصين في رحلة استكشافية لورشة العالم القديم، وقتها كان شكل التجارة مابين الصين والعالم قد وصل إلى مرحلة من التطور الطبيعي المناسِب لأحفاد سُلالة «تانج»، وحكى «ماركو بولو» عن توسع في سفن الكنوز التي تصل كافة أرجاء العالم المكتشف وقتها والتي كانت تقايض فيها البضائع التي تصل حمولتها لمائة وعشرين طنًا وقتها بالأحجار الكريمة والذهب والفضة في مراكز تجارية معروفة، من بينها المركز التجاري الصيني «هانج-زو»، والذي ذاعت فيه مقولة شهيرة نقلها الرحالة «الخضروات من الشرق، والماء من الغرب، والخشب من الجنوب، والأرز من الشمال».
غير أن تعاليم كونفوشيوس التي لطالما أشفق فيها من أن يفرض التجار من الجنسيّات الأخرى أخلاق وقيم وعناصر حضارية مخالفة لأخلاق الصينيين على الشعوب، وجدت هوى لدى أباطرة صينيين يكرهون التجارة، ليأتي القرن الخامس عشر حاملاً معه كسادًا تامًا لطريق الحرير، إذ أمر الإمبراطور باستعادة الأسطول التجاري، بينما بالغ وزيره في رد الفعل وحرق الأسطول برُمته الذي يعتقِد أنه «مبالغات كاذبة من الأشياء الغريبة التي لا يشهد الشعب مايجري بداخلها»، ويجرّم القانون فيم بعد أي شخص يقتني سفينة بأكثر من صاريتين.
3. شركة الهند الشرقية
بالرغم من أن طريق الحرير هُجِر تمامًا، إلا أنه على ما يبدو أن أوروبا لم تحتمل انقطاع المنتجات الصينية التي اعتادت استيرادها قبل الحظر الصيني.
وبميثاق ملكيّ رسميّ من الملكة الإنجليزية «إليزابيث الأولى»، تم تدشين شركة الهند الشرقية وقوامها تُجار لندن الشرفاء، بهدف استكشاف جزر الهند والصين الشرقية في المقام الأول، والتجارة معهما.
وفي عام 1760، تراجعت الحكومة الصينية في إجراءاتها المتشددة إزاء التجارة، ولكن بشروط.
مدينة «جوانج- زو» كانت هي الميناء الوحيد التي بوسع التُجار أن يدخلوه، بعد المرور أولاً بـ«ماكو» لاستئجار شخص محلي موكل من الحكومة لإمضاء الإذن بدخول المياه الإقليمية، وبعد ذلك التحرُك لـ«وامبو» لإجراء عمليات الشحن والتفريغ، ثم الدخول أخيرًا لـ«جوانج-زو» لا يُسمح لهم بغيرها، والتعامل مع عدد من التجار حددتهم الحكومة بالاسم.
2. الأفيون مقابل البضائع
أحب الإنجليز الشاي المجلوب من الصين، وصبغوه بصبغة من العادات الخاصة بهم؛ فنكهة بعينها لشاي الإفطار، ونكهة أخرى لشاي الخامسة، وعلى شرف الشايّ صُنعت حاويات وأدراج لتخزينه وحفظ مخزونه، وصيغت معالق من الفضة لأجل تقليبه، لكن وحدها فناجين الشاي من الخزف الصيني كانت مُهمة صعبة على الأوروبيين تقليدها.
وفي حين عكف عشرات العلماء والصُناع الموكلين بفهم سر الخزف الصيني، لكنهم أخفقوا طوال فترة أن يقلدوا النقوشات التي خلبتهم بنفس دقة الصُنع، وأن تخُط أنامل إنجليزية نقوشات «الصفصافات الزرقاء» -النقش الأوروبي المفضّل في الخزف الصيني- والذي يُصوّر نمط الحياة الهادئ الذي عرفه الأوروبيون من حكايا التجار عن الصين في المُدن المسموح لهم زيارتها.
في نفس الوقت زاد الطلب على المنتجات الصينية، بينما كانت الحاجة للمنتجات الإنجليزية في مجتمع شبه مكتفي ذاتيًا كالصين تكاد تكون منعدمة، فدفع الإنجليز مقابِل الشاي والخزف بالفِضة، إلا أن التجار الإنجليز تنبهوا لخطورة ذلك وبدأوا في تصدير الأفيون للصينيين بديلاً عن الفضة.
أما الحكومة الصينية فرأت خطر الأفيون، فجرّمته وحرمته على مواطنيها وتجارها على حد سواء، غير أن تهريب الأفيون أو إدخاله للصين بطرق غير شرعية أدى لنشوب حربيّ الأفيون في القسم الثاني من القرن التاسع عشر، مع ذلك استمر جلب الأفيون، وطرق التجارة ظلت عامِرة، حتى برغم ثورة قامت علي الوجود الأجنبي في الصين في أواخر القرن وتباشير القرن الجديد، لكنها فشلت.
1. «ماركة» صُنع في الصين
بحلول عام 1978، وبعد دنو وطأة الحروب والاضطرابات التي كابدتها جمهورية الصين الشعبية، بدأ الاتجاه إلى إصلاح اقتصادي صيني، بدأ بتخفيف حدة القيود على تدشين مصانع جديدة وعلى ريادة الأعمال بشكل عام، والذي مهد إلى استعادة عزّ ورشة العالم القديم –الصين- عاون هذه الإجراءات صداقة أمريكية ساهمت في تجاهُل القيود التي تفرضها أمريكا على الدول الشيوعية اقتصاديًا.
وبالرغم من ذلك، إلا أن العلامة التجاريّة «صُنع في الصين» تترجم بشكل نمطي وتلقائي في عقول المشترين على مستوى العالم بأنها علامة المنتجات زهيدة السعر، ومتواضعة الجودة، ورُبما تصِل لصورة المنتجات غير الآمنة.
مجموعة من العوامل يرى المختصون أنها أسهمت في هذه السمعة السيئة للعلامة التجارية العريقة منها حوادث متكررة حقيقية لمنتجات صينية غير مطابقة لمواصفات الجودة ويعزيها البعض إلى الحملات الإعلامية التي كانت من نصيب منتجات الصين في الحرب الباردة، إلا أن حيل متعددة رُبما تنتهجها العقول الاقتصادية الصينية لغسل هذه السمعة، منها ذكر أن المنتجات صُنعت في الصين بينما تصميمها من جنسيّة أخرى، أو تدشين شركات أخرى تُركِز على الجودة بشكل استثنائي.