من الطبيعي أن تقوم الدول باستمرار بمراجعة سياساتها العامة وتقييمها، فالسياسات من صنع البشر وتناسب ظروفهم، وهي تتغير بتغير المعطيات والظروف العامة، كالتي حصلت في فرنسا بعد صدمة الهجمات الإرهابية البشعة، التي هزت، ليس فقط فرنسا، بل العالم أجمع، فجعلتها تقوم، كما يتضح من تصريحات الرئيس الفرنسي ورئيس الحكومة ووزرائها، بمراجعة شاملة لسياساتها الداخلية والخارجية، وذلك ضمن الأطر الديمقراطية ومن خلال المؤسسات الدستورية القائمة.
مراجعة السياسات العامة في الدول المدنيّة المتقدمة شيء طبيعي، لكنها لا تمس الثوابت والقيم الديمقراطية الراسخة، مثل التعددية، والحريات، وتداول السلطة، وفصل السلطات، أما الحالات الاستثنائية التي قد تحصل أحياناً نتيجة ظروف طارئة، مثل الكوارث الوطنية والحروب والهجمات الإرهابية المُنظَّمة فهي استثناء يثبت القاعدة ولا ينفيها.
وفي هذا السياق، وبالرغم من بعض الإجراءات الاستثنائية التي قد تتخذها فرنسا بعد الهجمات الإرهابية الهمجمية، فإنه من الوهم تصور أنها ستتخلى عن نظامها المدني الديمقراطي، وستتحول إلى دولة بوليسية قمعية تكمم الأفواه تحت ذريعة مكافحة الإرهاب وحماية الأمن الوطني، بل العكس هو الصحيح؛ فبعد امتصاص صدمة التفجيرات الإرهابية التي هزت باريس والعالم أجمع، تعالت الأصوات المعارضة التي تنتقد علناً رئيس الجمهورية والحكومة معاً وتطالبهما بالاعتذار إلى الشعب وتعديل السياسات المعمول بها، ثم تحمل المسؤولية السياسية عن الاختراق الأمني الخطير الذي سمح لقوى الإرهاب بتنفيذ جرائمها البشعة، وذلك لأن جميع القوى السياسية والمدنية هناك تؤمن بأن الالتزام بالقيم الديمقراطية، واحترام المؤسسات الدستورية، فضلاً عن توسيع هامش الحريات العامة، وفي مقدمتها حرية الرأي والتعبير، هي التي تحمي فرنسا وغيرها من الدولة المتقدمة من قوى الظلام والتخلف التي تجد ضالتها في أجواء الاستبداد، والقمع، وتقييد الحريات، وتكميم الأفواه.
مرة أخرى، فإن حفظ الأمن الداخلي والخارجي هو من الوظائف الأساسية والضرورية للدولة، إلا أن شعور الإنسان بالأمن لا يتحقق بالقبضة البوليسية التي ‘تتفاخر’ بها عادةً الدولة المتخلفة، وتكون نتائجها كارثية على المجتمع والوطن كما رأينا في جمهوريات الخوف في منطقتنا مثل العراق وليبيا واليمن وسورية، بل إن الأمن الحقيقي والدائم يتحقق من خلال احترام القواعد الديمقراطية العامة، والمؤسسات الدستورية، وحماية حقوق الإنسان، وفي مقدمتها حقه في التعبير عن رأيه واحترام كرامته الإنسانية، علاوة على ضرورة حفظ الأمن الاجتماعي، وذلك عن طريق تحقيق العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص، وعدالة القانون وسيادته، وهو الأمر الذي يتطلب مشاركة المواطنين كافة من دون استثناء في صنع السياسات العامة واتخاذ القرارات التي تتعلق بحياتهم ومستقبلهم.